جميل جدا أن يقرر مجلس الإرشاد العام لجماعة الإخوان المسلمين البدء في الإعداد لإنشاء حزب سياسي للجماعة تحت اسم الحرية والعدالة تكون عضويته مفتوحة لكل المصريين الذين يقبلون برنامجه, وأن يعلن المرشد العام للجماعة أنه كلف المؤسسات المتخصصة داخلها بإعداد الصيغة النهائية لبرنامج الحزب ولوائحه وسياساته. علي أن يتشاور في ذلك مع مجلس شوري الجماعة. ذلك تطور مهم يستحق الاحتفاء به وتشجيعه, وهو يأتي استجابة لإلحاح الإصلاحيين المصريين المتواصل, علي جماعة الإخوان المسلمين بأن تقوم باجتهاد سياسي وفقهي خلاق, يوائم بين أفكارها وضرورات الدولة المدنية الديمقراطية, فتفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي, بأن تؤسس حزبا سياسيا مدنيا لا يخلط في اسمه أو برنامجه بين الأمرين, ولا يقصر عضويته علي اتباع دين معين, ويمارس العمل الحزبي بأساليبه, وضمن التقاليد التي تحكمه, والنصوص الدستورية التي تنظمه, علي أن تظل الجماعة باسمها الحالي, كجماعة دعوية دينية, يقتصر نشاطها علي الدعوة إلي قيم الإسلام وفضائله وأخلاقياته وعباداته, من دون أن تقحم نفسها في الشأن السياسي. وكان وراء هذا الإلحاح, إدراك هؤلاء الإصلاحيين, بأن تيار الإسلام السياسي, قد أصبح يشكل عقبة حقيقية أمام التطور الديمقراطي للنظام المصري, فالجناح المتطرف من هذا التيار, كان يعطي بممارسته العنف للتيار الاستبدادي في كواليس السلطة, الذريعة للاحتفاظ بحالة الطواريء لمدة30 سنة, والجناح الموصوف بالاعتدال منه وعلي رأسه جماعة الإخوان المسلمين كان بخلطه بين ما هو ديني وما هو سياسي يثير رعب غير المسلمين ومخاوف النخب الثقافية, من أن يقود أي انفتاح ديمقراطي حقيقي إلي الانتقال من الاستبداد المدني الذي كان قائما, إلي استبداد ديني, ينصب المشانق ويقيم المجالد لكل صاحب عقيدة مغايرة, وكل صاحب رأي مختلف, ويمارس القتل باسم الله, وهي عقبة لم تكن هناك وسيلة لتخطيها إلا بالإلحاح المتواصل علي جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الفصائل الموصوفة بالاعتدال داخل تيار الإسلام السياسي, بأن تسعي للتوصل إلي اجتهاد فقهي وسياسي خلاق, يوائم بين أفكارها وضرورات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا فصلت بين ما هو ديني و ما هو سياسي. وبعد تردد طويل, وإصرار علي أن تحتفظ الجماعة بصيغها الحالية, باعتبارها هيئة إسلامية جامعة أكبر من أن تكون مجرد حزب سياسي شأن غيرها, وأشمل من أن تقصر نشاطها علي مجال بعينه, أو أن تقتطع مما تعتبره شمولية الإسلام شيئا, طرحت الجماعة عام2007 مشروعا لبرنامج حزب سياسي, يسعي لبناء ما سمته دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية ضمنته نصا يقضي بإضافة سلطة رابعة إلي السلطات الدستورية الثلاث المعروفة هي سلطة المرجعية الإسلامية, وهي سلطة تمارسها كما ورد في البرنامج هيئة من كبار علماء الأمة, ينتخبها, وفضلا عن ذلك فقد تضمن برنامج الحزب نصوصا تقضي بعدم جواز تولي غير المسلمين وعدم تولي النساء منصبي رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء, وتتحفظ علي تولي المرأة للقضاء, بدعوي أن هذه المناصب تمثل ولاية كبري لا يجوز لغير المسلم وللنساء أن يتولوها, كما تضمن نصا يقضي بتطبيق عقوبات الحدود. وهكذا ابتدع مشروع برنامج الحزب سلطة فوق دستورية أشبه بهيئة تشخيص النظام في الدستور الإيراني تملك الحق في الاعتراض علي كل القوانين التي تصدر عن السلطة التشريعية, وتشطب عمليا النص علي أن الأمة مصدر كل السلطات, وهو المبدأ الذي تقوم عليه كل الدساتير. وكشف عن أن الذين صاغوه لا يملكون شجاعة الاجتهاد, وأنهم حين يخيرون بين رأي فقهي أقرب إلي ضرورات الدولة المدنية الديمقراطية, ورأي متزمت لا يعترف بهذه الضرورات, يختارون الثاني, وإلا ما تجاهلوا الآراء الفقهية المعتبرة التي تري أن رئاسة الدولة والجلوس مجلس القضاء لم يعودا في ظل الدولة المدنية ولاية بالمعني الذي ذهب إليه فقهاء السلف, بل أصبح كل منهما وظيفة, فرئيس الدولة لم يعد مكلفا بإمامة الصلاة الجامعة, وهو لا يمارس سلطة دينية, ولا ينفرد بإصدار قرار الحرب دون العودة إلي رأي مجلس الدفاع, والحصول علي موافقة مجلس الشعب, وأن القاضي لم يعد مكلفا بالعودة بنفسه إلي المصادر الشرعية لاستنباط الحكم فيما يعرض عليه منه, بل هو يطبق نصوصا قانونية جري استخلاصها من الشريعة, ولما تجاهلوا الرأي الفقهي الذي يجيز لولي الأمر أن يستبدل عقوبات الحدود بالتعاذير, وهو الرأي الذي أخذ به الإمام محمد عبده عند صدور قانون العقوبات المصري الحالي ليقودهم العجز أو العزوف عن الاجتهاد إلي صياغة برنامج لحزب ديني في غلالة مدنية. وكانت الانتقادات الحادة التي وجهت إلي هذه النصوص في برنامج الحزب, حتي بين أصدقاء الجماعة, وبعض قادتها, وراء القرار الذي اتخذته بسحبه لإعادة النظر فيها, قبل طرحه للمناقشة العامة مرة أخري, لتمضي ثلاث سنوات من دون أن تفعل, فيما فهم بأن التيار الغالب داخلها لا يزال يتمسك بصيغة الحزب الديني الذي يتقنع بغلالة مدنية. وإذا كانت عودة الجماعة إلي التفكير في إقامة حزب باسم الحرية والعدالة أمرا يدعو للتفاؤل ويوجب علي كل القوي الديمقراطية أن تسانده, وأن تتحاور معهم حولهم, لتدفعهم إلي اجتهاد فقهي خلاق يسهم في دمجهم في الحياة السياسية, بعيدا عن إشاعة الأفكار السطحية التي تروج بأن الديمقراطية هي الاحتكام إلي صندوق الانتخابات والقبول بحكم الأغلبية, وهي أفكار يتجاهل أصحابها أن صندوق الانتخاب هو مجرد أداة للديمقراطية, وليس كل أدواتها أو مضامنها, وأنها في جوهرها هي حكم الأغلبية مع الحفاظ علي حقوق الأقلية, ويتجاهلون الحزب المدني ليس هو الحزب الذي يرتدي أعضاؤه وقادته البدل والكرافتات, بل هو الذي يفصل بشكل واضح وصريح بين ما هو سياسي وما هو ديني, وأن الدولة المدنية ليست هي التي يحكمها الأفندية دون المشايخ والجنرالات, ولكنها الدولة التي لا تنحاز حكومتها في تشريعاتها ووظائفها وإجراءاتها إلي أتباع دين معين من رعاياها. وهذا هو ما ينبغي أن يقوله كل الديمقراطيين للإخوان المسلمين ولغيرهم من جماعات الإسلام السياسي التي تتدافع اليوم لكي تعلن أنها بسبيلها لتأمين أحزاب مدنية ذات مرجعية دينية, حتي لا تتنكب السبيل وتؤسس أحزابا دينية بغلالة مدنية! وصديقك من صدقك لا صدقك؟ المزيد من مقالات صلاح عيسى