تجلت في ثورة الخامس والعشرين من يناير أروع صور التآلف الوطني, فقد كان ميدان التحرير بمثابة المدينة الفاضلة التي حلم بها فلاسفة كثر, وبشر بها البعض منهم, وتنبأ آخرون بها, قرأنا عنها ولم نكن نحلم أن نري أي من عناصرها في أي دولة في العالم. , ناهيك عن بلدنا الذي كان يحتضن قبل الخامس والعشرين من يناير كل ما هو مناقض لهذه المدينة لدرجة أن زهور شباب وطننا كانت تلقي بنفسها في مراكب متهالكة هربا من وطن لم يعد لهم مكان فيه بعد أن زحف عليه كل ما هو قبيح وذميم. جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير في وقت كان كل شيء في مصر معروضا للبيع من قبل نخبة سياسية فاسدة وإعلام أكثر فسادا, كانت مصر علي شفا الإنفجار الديني, فأحداث نجع حمادي ومن بعدها العمرانية ثم تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة رأس السنة, تبعها مباشرة حادث سمالوط, وعادت أجواء الإنقسام الديني لتطل برأسها من جديد في شبه إعادة لمشاهد جرت عام1981 قبيل إغتيال الرئيس السادات. ترافق ذلك مع استغراق غالبية المصريين في حالة تدين شكلي, التخندق وراء شعارات ومظاهر دينية, مع تصدر رجال الدين للمشهد بكامله, فقد باتوا مطلوبين بشدة, وكانوا جاهزين بالفتاوي والتصريحات والدعوات. ترافق مع ذلك حالة مزيد من التباعد بين المصريين علي أساس ديني, رفعت الشعارات الدينية في مختلف مجالات وميادين العمل المدني, وجري تديين كل شيء في مصر حتي وصل ذلك إلي ميدان الرياضة وكرة القدم, ودخل فريقنا القومي لكرة القدم, ومدربه القدير حسن شحاته في هذه الدوامة بعد أن مارس بعض الإعلاميين هواية التديين فوصفوا الفريق بأنه فريق الساجدين ونقلت أحاديث عن حسن شحاته تتعلق بديانة وسلوك اللاعبين, وهو أمر أوجد حالة إضطراب شديد لدي قطاعات من المصريين, اشترت علم مصر, رفعت العلم, رأت الفريق, قوميا فإذا بها تجد من يقول أنه فريق ديني, توقف أمام ديانة اللاعبين وسلوكهم فأدي إلي حالة من الحيرة والتردد. نعم أنه فريق مصر القومي, فريق كل المصريين لأنه يمثل مصر ويردد نشيدنا الوطني, ولكن لأنه زمان تديين كل شيء وتوظيفه لحسابات سياسية فقد جري زج الدين في الرياضة كما تم زجه في قضايا أخري عديدة. نعم الشعب المصري متدين, بل من أكثر شعوب العالم تدينا. وسط هذه الأجواء الكئيبة, المخيفة,وقع حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة رأس السنة, وبينما كنا نتخبط من هول الفاجعة, فجأة قدم لنا شباب مصر طاقة نور يوم السادس من يناير الماضي, ليلة عيد الميلاد وفق التقويم الشرقي, فقد بادر بالدعوة إلي المشاركة في حماية الكنائس المصرية عبر تشكيل دروع بشرية تحمل الشموع لتأمين الكنائس ليلة العيد, وقد كانت الدعوة بمثابة مقدمة لما جري في الخامس والعشرين من يناير2011, فحملة الشموع في غالبيتهم من الشباب دون العشرين, ولم تكن لدي أي منهم حساسية في الوقوف ساعات طويلة حول أسوار الكنائس, كما أن عدد كبير منهم فضل دخول الكنائس والاستماع إلي عظة العيد, وقد تغير موضوع العظة في معظم الكنائس من المحتوي الديني الخالص إلي المحتوي الوطني, أو الإنطلاق من الديني إلي الوطني. وبينما كان مشهد الشموع من شباب مصر مؤثرا للغاية وجالبا للسعادة في وقت خيم فيه الحزن العام علي البلد, كان مشهد الترسانة المسلحة من الشرطة المصرية خارج الكنائس مؤلما للغاية, لماذا كل هذه القوات والمصفحات والتأمين ؟ تحمي من ممن ؟ عموما جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتجسد توجهات وتطلعات الأجيال المصرية الشابة, لتحدد مصر التي يريدونها, مصر مصرية فقط لا غير, في ميدان التحرير استظل الجميع بعلم البلد فقط, الشعارات مصرية مثلما كانت الملامح, البهجة تعم الجميع, السلوك مثالي, الابتسامة تعلو الوجوه, درجة التسامح عالية حتي مع الأخطاء, ذابت الفوارق بين المصريين, الجميع يعيش حالة وطنية ربما لم تتكرر منذ أكتوبر1973, مع فارق جوهري هو أننا في اكتوبر1973 توحدنا خلف جيش يحارب معركة تحرير الأرض واسترداد الكرامة, أما في يناير2011 فالمعركة كانت استرداد مصرية مصر أو معركة تمصير مصر مصر بلدنا الذي سرق منا علي مدار أربعة عقود منذ تسلم السادات السلطة من عبد الناصر. وبصراحة شديدة ومن واقع التجربة الشخصية أقول في ميدان التحرير ذابت الفوارق بين المصريين, تمت عملية تاريخية لجسر الهوة النفسية بين المصريين, ذابت المسافات, في ميدان التحرير صلي المسلمون الصلوات الخمس, مع سلسلة بشرية للحمايةالرمزية من قبل شباب قبطي, وفي ميدان التحرير حضر المسلمون أول صلاة مسيحية في ميدان عام, وتابعها الكثير, وفيه أيضا ردد المصريون كلمات ترنيمة مصرية تقول يارب بارك بلادي و وسلام سلام لشعب مصر في ميدان التحرير تعرف المصريون علي أنفسهم, ومنه إنبثق فجر جديد, أعاد لمصر مصريتها وأعاد للمصريين روحهم السمحة, وفيه تجلت خفة الدم المصرية, ومنه ولد الأمل الجديد....من مشاهد ميدان التحرير قدرنا العالم, وتمني قادة الدول الكبري أن يتعلم أبناؤهم من مصر وشبابها, من مشاهد ميدان التحرير أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوبما عن إنبهاره بمصر وشبابها. من ميدان التحرير, بدأت تتشكل ملامح نموذج مصري في التحول الديمقراطي الحضاري, نموذج أحسب أنه سيكون بمثابة الهادي والمرشد لدول كثيرة في العالم, لا تقتصر علي المنطقة والعالم العربي, بل ستمتد آثارها إلي ما هو أبعد من ذلك جغرافيا, ثقافيا وحضاريا....لكل ذلك فأنني أتمني من كل قلبي استمرار إنضاج هذا النموذج والخطوة الأولي هنا هي العودة إلي النموذج المصري الأصيل في التدين الذي يعتمد علي الجوهر ومكنون القلب لا الشكل والمظهر, أتمني أن يجري سريعا وعلي نحو تلقائي استبدال كل ما هو طائفي, بما هو وطني, أتمني أن يبادر المصريين برفع كل ما يشير إلي الهوية الدينية, فالهوية الدينية لا تحتاج إلي إعلان, أدعو لأن يكون علم مصر في كل مكان, في السيارة وشرفة المنزل, في المكتب والشارع, فتحت راية العلم كلنا مصريون..وفق هذه الروح أؤمن تماما أن الثورة ستحقق أهدافها, وتحتل مصرالمكانة التي تليق بها في غضون أقل من عشر سنوات, وينتشر عبق ثورة اللوتس في محيطنا الإقليمي ثم يتجاوزه إلي ما هو أبعد من ذلك.