يبدو أن مصر تعيش لحظة تاريخية تتساقط فيها بعض الوجوه والأفكار والخطابات السياسية والدينية والإيديولوجية التي ظلت ضاغطة علي روح الأمة حتي أوشكت علي الاختناق, وكادت تلفظ روح العقلانية والرشد السياسي وقيم الحداثة السياسية والاجتماعية لصالح منظومات من الأفكار السلطوية الدينية والسياسية التي تتعايش وتتساند عضويا علي بعضها بعضا, حتي ولو بدت وكأنها في حالة خلاف, ومنها فزاعة الخطر الإسلامي التي روج لها بعضهم في أجهزة الدولة لإشاعة الرعب وسط الأقباط, وبعض أبناء الطبقة الوسطي المدنية ذات التعليم الأجنبي, وبعض الليبراليين واليساريين والقوميين! ناهيك عن إخافة الغرب! الانتفاضة الجماهيرية الديمقراطية واسعة النطاق التي قامت بها الأجيال الجديدة للطبقة الوسطي المدنية لم يدع إليها لا الإخوان المسلمين ولا المؤسسات الدينية الرسمية, ولا القوي السلفية, ولا الدعاة الجدد, حتي ولو التحق بها بعض من هؤلاء فيما بعد, ومن ثم حاولوا الاستفادة من زخمها, وهذا طبيعي في العمل السياسي, وحتي في محاولات البعض تغيير جلده أو وجهه وارتداء قناع جديد ثوري هذه المرة أو انتفاضي. الاستثمار السياسي للانتفاضة الجماهيرية الديمقراطية أمر وارد ومعروف في كل الانتفاضات الجماهيرية, أما بمحاولة النظام إعادتها إلي بيت الطاعة السياسية والقمعية كما حدث مع حركة الطلبة الديمقراطية الوطنية في1973/72, وفي17 و18 يناير.1977 أو بالاستمرار في نظرية العناد السياسي, وعدم الإنصات إلي الأصوات الوطنية الإصلاحية الداعية للتغيير السلمي في السياسات, وفي إعادة هيكلة وتنظيم وتطوير الأنظمة الدستورية والسياسية والاجتماعية والإعلامية من خلال توسيع وتجديد شباب الصفوة السياسية الحاكمة وإعطاء فرص حقيقية للأجيال الجديدةالشابة كي تتبوأ المواقع القيادية في كافة المجالات كي تأخذ فرصها من الخبرات السياسية والإدارية والقدرة علي اتخاذ القرارات في واقع يتسم بالتناقضات, وملبد بالمشكلات الحادة والأزمات الممتدة والطارئة. لم تسمع الصفوة الحاكمة ولم تقرأ ولم تعرف ما الذي يحدث, وكان ثمة ولع غريب ومريب بتصعيد العناصر الأقل كفاءة من المديوكر, والمنيوكر أي عناصر ما دون الحد الأدني من الكفاءة والذكاء والمهنية والتكوين كي يشغلوا مواقع سياسية وحزبية وإعلامية ووزارية وعلي قمة أجهزة الدولة. أن هذا الموقف البيروقراطي لا السياسي كان يعكس خوف الصفوة الحاكمة والنظام من الأذكياء والأكفاء, ومن الثقافة والمثقفين, خوف غريزي لأنهم كانوا يكرهون المعرفة والثقافة, وكل ما يمثلونهما من طلائع المثقفين والمبدعين المصريين. كان بعضهم عند القمة يحاول أن يستخدم الثقافة والمبدعين كجزء من الماكياج السياسي لتجميل الوجه الحقيقي القبيح لنظام يكن الكراهية والعداء للمعرفة والثقافة, والخطابات السياسية والاجتماعية والفكرية النقدية. صفوة طغيانية حاكمة كانت تستدعي بعض المثقفين والمبدعين الموالين وآخرين كجزء من الاستعراضات الشكلية التي تستبعد ما هو حقيقي ليحل محله كل ما هو تجميلي وتمثيلي وشكلاني! كان ثمة تحريض علي الثقافة والمبدعين من خلال استخدام قوي دينية رسمية ولا رسمية وتستعدي علي الإبداع والمبدعين, وتحولت الروايات والأشعار والقصص إلي هدف لقوي ظلامية ساعية لإشاعة وتوزيع الخوف وترويع الأدباء. تحول الفكر الديني المصري الوسطي إلي نمط من الغلو والتطرف الديني الإيديولوجي الذي يرفع سلاح التكفير وجحد إيمان المثقفين والمبدعين, وتحويل كل الإنتاج الإبداعي والبحثي والثقافي إلي محاكم تفتيش في الضمائر والأفكار, ومطاردة القصائد والروايات والمسرحيات والأبحاث الأكاديمية بدعوي أن بعض رجال الدين أو دعاتهم يمتلكون المعايير والحقائق الدينية المطلقة, وأنهم حراس بوابات الإيمان الإسلامي, لم يقتصر الأمر علي سلطات التكفير المدعاة باسم الإسلام الحنيف والعادل إسلام الحرية والمساواة والتسامح وحرية التدين والاعتقاد والضمير إلي إسلام علي هوي بعضهم من سدنة معبد التسلطية الدينية حليف طغاة التسلطية السياسية, والقمع باسم الأمن والدين. شاركت عناصر غلابة داخل السلطة الدينية المسيحية المحافظة في محاولة محمومة لوضع المصريين المسيحيين في معتقلات الضمير والعقيدة, بعيدا عن الأخوة الوطنية في مسعي لكسر وحدة الأمة رأسيا. عديد الأطراف شاركوا في مسعاهم للحياة فوق بقايا جسد الدولة/ الأمة الحديثة غالب الصفوة السياسية الحاكمة والاستثناءات محدودة تحالفت مع رجال دين رسميون وبعض قوي الإسلام السياسي, وعناصر سلفية وعناصر أخري لعبت دور المعارضين في تمثيلية سياسية أقرب إلي الملهاة السياسية, حيث لا سند ولا ركائز اجتماعية تدعم هذه التحالفات والمعارضات الهامشية أو تؤيدها. وبرز بعض هؤلاء مؤخرا كمحاورين للنظام في استراتيجيته لإعادة ترميم نفسه مجددا واحتواء الانتفاضة الشعبية الوطنية الديمقراطية. عاشت الصفوة السياسية الحاكمة وغالب القوي الدينية علي اختلافها- تتساند وتتكامل وتدعم بعضها بعضا, وصمت أذانها وأغمضت عيونها عن أصوات وكتابات نقدية وإصلاحية طالبت بالتغيير وتطوير الدولة وتحويل النظام من التسلطية إلي الديمقراطية ودولة القانون الحديث. كانت الشيخوخة السياسية والجيلية تستمر وتتمدد وتتجمد علي مقاعدها المخملية الوثيرة, كاشفة عن أنانية جيلية, ومعاندة سياسية وغياب للمسئولية السياسية والقانونية والأخلاقية إزاء الأمة والدولة والأجيال الجديدةالشابة ومستقبلها. عاش بعضهم في ظل غيبوبة سياسية لا تري واقع جديد يتخلق من بين أصلاب الخلايا الضامرة للشيخوخة الجيلية والسياسية التي تضرب نسيج الصفوة الحاكمة والمعارضة وهياكل الدولة والنظام القديم والأخطر شرعيته التي كانت تتآكل وتتداعي, ولا تجد بعض الإصلاحيين أو العقلاء داخل النظام من ينبه ويشير وينصح إلي خطورة الشروخ والتآكل والتهدم في نظام الشرعية السياسية والدستورية علي خطورة ما كان يحدث حتي انتفاضة شباب الطبقة الوسطي المدنية يوم25 يناير الماضي وما يعده, وتنامي البيئة الحاضنة والداعمة لهم من آبائهم وأخوتهم وأسرهم بطول مصر وعرضها. في ظل بيئة الجمود السياسي والفكري, والركود الجيلي باسم الاستقرار تشكلت القوي الشابةالجديدة علي الواقع الافتراضي هروبا من القيود القمعية الأمنية والسياسية والقانونية والإدارية علي الواقع الفعلي, وعلي المجال العام السياسي الذي تم تأميمه وتديينه بتواطؤ مع بعض أجهزة الدولة والصفوة الحاكمة. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح