أيام وساعات عصيبة عاشتها مصر, كان أكثرها إثارة ما يقرب من ثماني عشرة ساعة فصلت ما بين البيان الأخير للرئيس مبارك مساء الخميس الذي فوض فيه صلاحياته لنائبه عمر سليمان, ولكنه لم يرض أحدا في طول مصر وعرضها وبيان التنحي, الذي قرأه عمر سليمان في الساعة السادسة مساء الجمعة11 فبراير الحالي, متضمنا تفويض صلاحيات الرئيس في إدارة شئون البلاد للمجلس الأعلي للقوات المسلحة. لحظة إعلان التنحي هي لحظة بالعمر كله للمصريين جميعا, لحظة اجتمعت فيها كل معاني الفرح والسرور بصورة لم يعهدها المصريون من قبل. لحظة عبرت عن انتصار كبير, وعن إزاحة كابوس لم يتصور أحد في يوم من الأيام أنه سيحدث بهذه الصورة, عندها انطلق الشباب صائحين في لحن جميل أرفع رأسك فوق.. أنت مصري. كلمات بسيطة جسدت الكرامة والعزة ورفض الذل والانكسار. والأهم استرداد حرية الوطن من سجانيه. لقد رحل الرجل القوي في النظام وعموده وبقي الناس, رحل الفرعون الأخير وبقي الشعب, رحل الفاسدون وبقي المصريون ينظرون فيما أنجزوه وفيما لم ينجزوه بعد. والحق هنا أن ما جري في الأيام الثمانية عشر بين الخامس والعشرين من يناير, يوم انطلقت أولي المظاهرات الصاخبة في شوارع العديد من المدن الرئيسية, وحتي لحظة الرحيل الصاخب سيظل مليئا بالدروس والحكايات والقصص والأخبار التي لم تنشر بعد, والتي ستشكل بدورها رصيدا للتاريخ حول كيفية صنع ثورة شعبية تشارك فيها كل القوي السياسية وكل التجمعات وكل الأجيال علي نحو فريد, وتلتزم جميعها هدفا واحدا وهو التغيير الجذري, وتتمسك بالأساليب السلمية والمساندة الشعبية والتحركات الواعية المنظمة بداية من تنظيم الشعارات وإطلاق المسميات علي الأحداث والمسيرات, واجتذاب الناس العادية والقيام بمسيرات مخططة بوعي, كتلك التي أحاطت بمبني الاذاعة والتليفزيون وتلك التي ذهبت وأحاطت بالقصر الرئاسي صباح11 فبراير وخططت للبقاء حتي رحيل مبارك غير مأسوف عليه. هذه الثورة بما عرف عنها وما لم يعرف بعد تطرح أسئلة كبيرة للمستقبل, لاسيما وأن الثوار أنفسهم لم يصلوا بعد للحكم, ولم يسيطروا كما حدث في كل الثورات الشعبية التاريخية كالثورة الفرنسية والإيرانية وغيرهما علي مقاليد الحكم, وصفوا حساباتهم التاريخية مع رموز الحقبة السابقة. لقد ثار المصريون وقبلوا أن يسلموا الأمانة طوال فترة انتقالية للقوات المسلحة باعتبارها المؤسسة المصرية الجامعة لكل المصريين التي ارتضت الحفاظ علي المشروعية الشعبية وضمان تحقيق المطالب المشروعة التي رفعت إبان أيام الثورة, وهي المؤسسة التي لا يمكن لأحد أن يزايد علي مواقفها الوطنية التاريخية, أو يتهمها بأنها تبيع الوطن وتخون الأمانة كما فعلت النخبة الحاكمة التي أحاطت بمبارك ونجله وأفسدت كل شئ في البلاد. غير أن جهود شباب الثورة في الحفاظ علي قوة الدفع الشعبي بدأت تأخذ شكلا آخر من التنظيم, يدفع نحو مراقبة الوضع ووضع تصورات للفترة الانتقالية وتحديد مطالب توصف بالعاجلة كحل جهاز أمن الدولة والإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين, وضمان ألا تطول الفترة الانتقالية عن ضروراتها. مطالب تعكس شكلا جديدا من التفاعل بين طليعة من الشعب وبين المجلس الأعلي للقوات المسلحة. الحديث عن المستقبل القريب علي الأقل تتضح معالمه في ضوء البيان الخامس تحديدا الذي أصدره المجلس الأعلي للقوات المسلحة التي تتولي إدارة شئون البلاد, موضحا فيه خطوات إدارة البلاد لمدة ستة اشهر علي أن تنقل السلطة بعدها إلي حكومة مدنية منتخبة, ومقررا حل مجلسي الشعب والشوري, علي ان تتم الانتخابات لاحقا بعد ان تنتهي لجنة خاصة من صياغة التعديلات الدستورية المطلوبة. بيانات المجلس وإن اوضحت بعضا من الطريقة التي سيحكم بها البلاد للفترة الانتقالية, إلا أن هناك الكثير من الامور ما تزال محل تساؤل ولا إجابة شافية عنها, من قبيل حدود التعديلات الدستورية التي ستقرها اللجنة المعنية بهذا الأمر, وهل سيكون من حقها مثلا تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية, أو إعادة صياغة النظام السياسي من رئاسي إلي برلماني مثلا, أو الغاء مجلس الشوري والاكتفاء مثلا بغرفة واحدة فقط للتشريع وهي مجلس الشعب, أو تغيير نظام الانتخاب من فردي إلي النظام التمثيل النسبي والقائمة الحزبية. لقد أدت ثورة الشباب إلي فتح كبير, واختفت رموز لم يكن لمصري أن يتخيل أنها يمكن أن تختفي, أو أن يطالب أحد بمحاسبتها أو أن يقدم أحد بلاغا للنائب العام للتحقيق في أحداث معينة أو وقائع أو الحصول علي أراض وامتيازات بصورة غير مشروعة. كما فتحت ملفات كل الشخصيات الكبيرة من سياسيين ووزراء سابقين ورجال أعمال اندمجوا في زمرة الحكم والفساد علي نحو غير مسبوق. وبات الحديث الشائع لدي المصريين جميعا كيف يمكن أن تسترد الدولة الأموال المنهوبة والتي تصل إلي عدة مئات من مليارات الدولارات وفقا لتقديرات تقارير صحفية عديدة, لكي يعاد صبها في الاقتصاد المصري بطريقة شرعية. وحسنا فعل النائب العام حين اصدر قرارات بمنع سفر عدد كبير من الوزراء السابقين وجمد أموال البعض منهم ومنعهم وأسرهم من التصرف فيها, وحسنا فعلت مراكز قانونية ومكاتب للمحاماة وجمعيات حقوقية مدنية أن تقدمت ببلاغات لا حصر لها لغرض التحقيق في الكثير من وقائع الفساد التي تزكم الأنوف. ومن وراء ذلك رغبة لا حدود لها لدي المصريين جميعا في معرفة كيف كانت تنهب بلادهم, وكيف حقق هؤلاء كل هذا الثراء وفي المقابل زيادة أعداد المصريين تحت خط الفقر, وبما يزيد عن40% من اجمالي السكان, وهي نسبة مهولة تكشف حجم التفسخ الاجتماعي الذي حدث في مصر في العقد الأخير تحديدا من حكم مبارك, وهو العقد الذي شهد سطوة رجال الأعمال وهيمنتهم علي مجمل العملية السياسية والاقتصادية تحت رعاية كاملة من نجل الرئيس جمال, الذي بدا طامحا بشدة وبأي ثمن لوراثة منصب الرئيس إن خلا المنصب بعد وفاة والده. قصص الفساد المفزع وتقارير الثروات الهائلة للوزراء السابقين وعدد من رجال الأعمال النافذين, تحتم اجراءات قضائية فورية للتيقن مما ينشر ويقال, وإجراءات أخري لاسترداد هذه الأموال المنهوبة من الخارج إن وجدت, أو مصادرة الممتلكات الموجودة في مصر وتحويلها للصالح العام. لقد نجحت ثورة ميدان التحرير في إنهاء حكم رئيس عزل نفسه عن شعبه ولم يعد يعرف ما الذي يحدث في البلاد, متأثرا بطموحات ابنه الجارفة. ثورة تغري كثيرين إلي تكرار المشهد ذاته في المؤسسات المختلفة حتي يعاد النظر في التشريعات المنظمة لهذه المؤسسات. غير أن الأمر قد يتحول إلي نوع من الفوضي وتصفية الحسابات والثأر الشخصي, وليس إعادة هيكلة حقيقية تراعي المتغيرات الكبري التي مرت بها مصر. وعند حد معين قد تنقلب الامور إلي ضدها, وهو ما لن يرضي أحدا. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب