تعودنا في العلوم السياسية علي تأكيد الفكرة التي مؤداها: إن أحد أركان الديمقراطية كنظام سياسي, هو مبدأ تداول السلطة. واذا كنا نتفق مع بعض كبار المفكرين السياسيين, ومن أبرزهم عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون, أنه ليست هناك نظرية صوريةFormal محكمة تنص علي المبادئ الحاكمة للديمقراطية علي غرار الماركسية التي تمتلك نظرية متكاملة حقا, إلا أنه هناك ولاشك في ذلك مجموعة قواعد للديمقراطية لا تقوم بغيرها. وهذه القواعد يمكن إجمالها في احترام التعددية بكل أنواعها في المجتمع, وضمانات دستورية وقانونية لحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم, وتنظيم انتخابات دورية نزيهة, سواء للمجالس النيابية أو الرئاسة الجمهورية في النظم الجمهورية, وبعد ذلك وقد يكون في المقدمة, احترام مبدأ تداول السلطة. بعبارة أخري, تحدد الانتخابات الدورية النيابية الحزب السياسي الذي يحوز الأغلبية, والذي من حقه أن يشكل الحكومة, كما أن نتيجة الانتخابات الدورية الرئاسية في النظم الجمهورية, هي التي تحدد شخص رئيس الجمهورية الذي فاز بأعلي الأصوات. وفي عديد من النظم الديمقراطية يحدد الدستور كما هو الحال في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو العرف كما هو الحال في فرنسا المدة القصوي لولاية رئيس الجمهورية, والتي لا يجوز له بعدها أن يترشح للمنصب. تداول السلطة كان ومازال هو محور نظرية الديمقراطية من ناحية المبدأ, ومن زاوية الممارسة. غير أنه من ناحية أخري, يمكن أن نلاحظ أنه في المؤسسات العلمية خصوصا مراكز الأبحاث, لم يحدث اهتمام مواز بأهمية مبدأ تداول السلطة بين القيادات العلمية, ويمكن القول إن أحد فروع علم الاجتماع التي لم تنل حقها في العالم العربي والتي تهتم اهتماما أساسيا بتنظيم ومشكلات المجتمع العالمي, هو ما يسمي علم اجتماع العلومSociologgofscience. وهذا العلم يركز علي الدور الحاسم الذي يلعبه القادة العلميون, خصوصا فئة مديري مراكز البحوث في التخطيط الخلاق والتنفيذ الفعال لخطط البحث العلمي في ميادين البحث المختلفة, وفق رؤية متكاملة تعكس الثقافة النظرية والخبرة العملية لمدير المركز, وقدراته العالية علي تشكيل فرق البحوث العلمية, ومتابعة أعمالها ونشرها, كل ذلك بالإضافة الي قدراته علي التجدد المعرفي والتخطيط المستقبلي. أكتب ذلك بمناسبة أن مجلة المستقبل العربي التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت, نشرت في عددها الأخير الصادر في أول يناير1102 افتتاحية للدكتور خيرالدين حسيب مدير عام المركز ورئيس التحرير, بعنوان مركز دراسات الوحدة العربية علي مشارف مرحلة جديدة, يخبرنا فيها أنه حدث تداول للسلطة في مجال قيادة المراكز, إذ آثر أن يعتزل إدارة المركز التي تولاها منذ نشأته حتي الآن وخلفه أكاديمي مرموق هو الدكتور يوسف الشويري. وهذا الخبر العلمي المهم يستدعي أن نستعيد لذاكرة المجتمع العربي, أن مركز دراسات الوحدة العربية الذي اجتمع علي تأسيسه نخبة مختارة من لمثقفين العرب منذ أكثر من ثلاثين عاما ليكون أول مركز علمي عربي يتخصص في مسائل الوحدة العربية من جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, اختارت الدكتور خيرالدين حسيب ليكون مديرا لهذا المركز. والدكتور حسيب لمن لا يعرف أستاذ اقتصاد ومفكر عراقي مرموق, سبق له أن شغل وظائف اقتصادية بالغة الأهمية في العراق, قبل أن يعمل لسنوات طويلة مستشارا اقتصاديا لهيئة الإسكوا في بيروت. غير أن التاريخ سيسجل للدكتور حسيب ليس فقط الوظائف الرسمية التي شغلها برغم أهميتها البالغة وأدائه العلمي والقومي رفيع المستوي, بل دوره الخلاق في تأسيس المركز وتخطيط بحوثه, والإشراف الدقيق علي تنفيذها. لقد كانت لديه منذ البداية رؤية متكاملة لعمل المركز, وكأي مدير علمي قدير اعتمد في المقام الأول علي مجموعة من كبار الباحثين العرب من جميع التخصصات, ليكونوا أشبه ما يكونون بلجنة استشارية, وأجاد الدكتور حسيب إجادة مبدعة في تشكيل الفرق البحثية المختلفة, وحشد أبرز العقول العربية من المشرق والمغرب والخليج, في ندوات علمية كبري تناولت أهم المشكلات التي تواجه المجتمع العربي. ونتيجة لجهده المتواصل استطاع أن ينشئ لأول مرة في التاريخ الثقافي العربي مجتمعا فكريا عربيا, يضم كل العقول الفعالة والشخصيات المرموقة في مجالات الفكر العربي المعاصر. ذابت في مؤتمرات المركز وندواته الفروق بين المثقفين المشارقة والمغاربة والخليجية, وتعمقت أواصر التواصل, بل والصداقة بين مختلف فئات الباحثين والمثقفين العرب. ويشهد علي ذلك ندوات المركز الكبري, ومن أبرزها علي الاطلاق أزمة الديمقراطية في الوطن العربي, التي انعقدت في ليماسول بقبرص من62 03 تشرين الثاني/ نوفمبر3891, لأن كل العواصم العربية لأسباب معروفة رفضت استضافتها. اخترت هذه الندوة التاريخية التي جمعت المثقفين العرب من أقصي اليمين الي أقصي اليسار, لأنها تناولت بشجاعة وجسارة أزمة الديمقراطية في الوطن العربي, ولأنه في جلساتها الختامية أعلن عن تشكيل الجمعية العربية لحقوق الإنسان التي لعبت من بعد أدوارا سياسية بالغة الأهمية. وباعتباري من المجاهدين القدامي في مجموعة خبراء المركز, أستطيع أن أحدد ملامح عبقرية الدكتور حسيب في ادارته العلمية والإدارية والمالية الفذة لمركز دراسات الوحدة العربية. مازلت أذكر أنه كان يزور القاهرة ويقيم معسكرا علميا لمجموعة منتقاة من الخبراء العرب, ينعقد في أحد الفنادق للتخطيط العلمي لبحوث المركز في خمس سنوات, عمل متصل كان يقوم به الخبراء, حيث لا يقنع قائد المعسكر بالاقتراحات التي تقدم لدراسة بعض البحوث, بل يطلب من كل صاحب فكرة أن يسجلها كتابة في صورة مشروع بحثي, وفي نهاية الأسبوع المضني تخرج وثيقة تتضمن مشروعات بحوث المركز وندواته في السنوات الخمس المقبلة. ليس ذلك فقط, بل إن الدكتور حسيب بصرامة شديدة مشهورة عنه يتابع تكليفات الباحثين والخبراء بكل دقة, ولا يتواني أحيانا عن إرسال رسائل توبيخية وإن كانت رقيقة لكل من تأخر عن تسليم بحثه, ولذلك أطلقنا عليه نحن معشر تلاميذه وأصدقائه من الباحثين والمثقفين الجنرال حسيب, لأنه يتسم بالدقة الكاملة في متابعة التنفيذ واحترام التوقيتات. ليس ذلك فقط, بل انه قبل أن تشيع مفاهيم ومصطلحات الجودة في علم الإدارة أنشأ نظاما لضمانات جودة المنتج العلمي في المركز, من خلال وضع نظام بالغ الدقة لتحكيم مشاريع البحوث قبل اجرائها, وتحكيم البحوث بعد انتهائها بناء علي تقارير يكتبها خبراء متعددون. الدكتور خير الدين حسيب من بناة المؤسسات, ويشهد علي ذلك تأسيسه لالمنظمة العربية للترجمة, التي أصبحت في مقدمة المؤسسات العربية في مجال ترجمة الكتب والمراجع الكلاسيكية في مجالات الفلسفة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس, بالإضافة الي ترجمة أهم الكتب الحديثة. وقد أسس المؤتمر القومي العربي والذي أصبح أهم تجمع للمثقفين القوميين العرب, كما أنه أشرف علي تنظيم عديد من الندوات للحوار القومي الإسلامي, من منطلق إنشاء كتلة تاريخية قادرة علي إحداث التقدم في المجتمع العربي. وقد أشرف بنفسه علي مشروع من أكبر مشروعات المركز وهو استشراف مستقبل العالم العربي, الذي كان مدرسة علمية تخرج فيها عدد كبير من الأساتذة العرب المرموقين. كما كان من أهم مشاريعه الأخيرة المشروع النهضوي العربي, الذي طرح منذ شهور وكان خاتمة جهود بحوث استمرت سنوات. واذا سمحت لنفسي أن أتحدث عن خبرة مباشرة في التعامل مع الدكتور حسيب, فإنني أشير الي تكليفه إياي مع عدد من كبار المثقفين بالتخطيط لندوة كبري عن التراث وتحديات العصر في الوطن العربي( الأصالة والمعاصرة), عقدت هذه الندوة الكبري في القاهرة, ونشرت أعمالها في مجلد ضخم في أغسطس5891, وكلفني بتحرير أعمالها, وحين عدت منذ أيام الي المقدمة التي كتبتها لهذا المجلد, وجدتني أعبر عن حيرتي في منهج تحرير أعمال هذه الندوة الحافلة بعدد من أهم البحوث العربية في الموضوع, حررتها نخبة من أبرز المفكرين العرب, تجد من بينها محمد عابد الجابري والطيب تزيني ومحمد أركون وأحمد صدقي الدجاني, وقسطنطين زريق ووليم قلادة, وسعد الدين إبراهيم, وأحمد كمال أبو المجد, وطارق البشري, وعبدالله عبدالدايم, وجلال أحمد أمين, وفودي حمود القيس بالاضافة الي باحثين يابانيين. وذكرت في المقدمة بالنص.. كان التوجيه الذي صدر لي من مركز دراسات الوحدة العربية والوارد في خطاب التكليف ضرورة اختصار التعقيبات الي نصف حجمها, والمناقشات الي ربع حجمها وذلك حتي يمكن إصدار الكتاب في حجم معقول. كان تحديا بالغ الصعوبة, أدي في بعض الحالات الي غضب عدد من الاصدقاء المشاركين في الندوة من حذف بعض فقرات تعليقاتهم, ولكن لم يكن أمامي سوي اطاعة الأوامر الصارمة الصادرة من الجنرال حسيب! أكتب هذا المقال تحية خالصة لأستاذي وصديقي الذي تعلمت منه الكثير الدكتور خيرالدين حسيب, والذي سيقنع في الفترة المقبلة ليكون رئيسا لمجلس أمناء المركز, وللزميل العزيز الدكتور يوسف الشويري الذي نرجو له التوفيق في إدارة مركزنا العتيد, الذي استطاع عبر سنواته الممتدة أن يقدم للمجتمع العربي أهم مكتبة علمية متكاملة تعني بشئون العرب في الماضي والحاضر والمستقبل.