برزت أخيرا دعوات غربية متكررة عقب تفجير الإسكندرية بالتدخل لحماية مسيحيي مصر تحت زعم تعرضهم للاضطهاد, والتطهير, ووصل الأمر الي حد مطالبة بابا الفاتيكان لقادة العالم بالتدخل لحماية الأقباط, وهو مايمثل ليس فقط تدخلا سافرا في الشأن المصري أو انتهاكا للسيادة ونوعا من الاستعلاء والوصاية المرفوضة, بل يعد خلطا صريحا للأوراق وازدواجية الغرب في التعاطي مع مشكلات المسيحيين بالمنطقة وفهما خاطئا لها بما يسهم في تعقدها وليس حلها. فالواقع أن الفهم الغربي لمشكلة المسيحيين في الشرق الأوسط, خاصة أقباط مصر, لايدرك حقيقة أن هؤلاء هم جزء أصيل من نسيج الوطن المصري وأنه لاينطبق عليهم مفهوم الأقليات الذي تشهده كثيرا من دول العالم, فالاختلاف الوحيد بينهم وبين بقية المواطنين المصريين هو في الدين فقط, بينما يتماثلون في العرق واللغة والإقليم الجغرافي, وذلك علي خلاف الأقليات الأخري مثل الوضع في جنوب السودان, حيث تتجمع الاختلافات العرقية والدينية واللغوية والجغرافية, وهو ماسهل انفصال الجنوب, كما أن المشكلات التي يعاني منها الأقباط المصريون هي نفس المشكلات والتحديات التي تعاني منها فئات المجتمع ككل, خاصة المشكلات الاقتصادية والسياسية وغيرهما, وحماية هؤلاء وغيرهم من عناصر المجتمع هي المسئولية الأولي للدولة بكل أجهزتها والتي يثق فيها الجميع. والمفارقة الغريبة هنا أن الغرب الذي يعبر عن قلقه من أوضاع المسيحيين في مصر ويزعم بأن هناك حملات لتطهيرهم ومن ثم التدخل لحمايتهم, لايمكن له ان يقبل بالمثل وبنفس المنطق بأن تطالب الدول الإسلامية بالتدخل لحماية الأقليات الإسلامية في الغرب, والتي تعرضت لكثير من الانتهاكات والتمييز في السنوات الأخيرة بعد أحداث11 سبتمبر, مثلما رأينا في قضية منع بناء المآذن في سويسرا واصدار القوانين المقيدة للحريات مثل ارتداء النقاب, اضافة لاستفزاز مشاعر المسلمين بالرسوم الكارتونية المسيئة للنبي والتي نتج عنها عشرات القتلي والجرحي في العديد من الدول الإسلامية, وكل ذلك نتيجة لخلط الغرب المتعمد بين الإسلام والإرهاب. لقد أثبتت التجربة أن مفاهيم التدخل الخارجي والتي سادت عقب انتهاء الحرب الباردة تحت شعارات الاعتبارات الانسانية ونشر الديمقراطية وحماية الأقليات وغيرها, لم تكن سوي مدخل ظاهره الرحمة وباطنه العذاب, لتحقيق مآرب ومصالح سياسية نتج عنها الفوضي والاضطراب داخل المجتمعات التي شهدت عمليات التدخل وربما يكون الوضعان العراقي واللبناني خير مثال علي ذلك, فالتعدد اللغوي والإثني والعرقي والديني لايعد مشكلة في ذاته, وإنما المشكلة هي في نمط العوامل التي تحوله الي التناحر والصدام كما يفعل الغرب بتدخله في قضايا الشرق الأوسط, بينما المنهج الصحيح لاحتواء تلك الاختلافات وهو ماتفعله مصر يكون من الداخل عبر تكريس الديمقراطية والمواطنة والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وتطبيق حكم القانون وتكافؤ الفرص ونشر ثقافة التسامح ونزع التعصب وتعظيم حرية العبادة وحرية الأديان. كما أن دعوة الفاتيكان للتدخل لحماية أقباط مصر إنما تستهدف تنفيذ مشروعه الكاثوليكي بوضع الكنائس الأرثوذكسية تحت وصياته, برغم أن البابا بنديكت السادس عشر اعتبر في بداية عهده أن كل ماهو غير كاثوليكي علي ضلال, إضافة الي موقفه الصامت ازاء انتهاك إسرائيل المتواصل لحقوق وحريات المسيحيين في فلسطين, ولاشك ان هذا النهج الفاتيكاني يوجد حالة من الاستقطاب الحاد الذي يضرب أسس حوار الأديان والتعايش فيما بينها. وينبغبي النظر لحادثة الإسكندرية علي أنها حادث إرهابي وليس طائفيا, والإرهاب اللعين لايميز في أهدافه بين مسلم أو مسيحي, حيث شهدت مصر في السنوات الأخيرة العديد من الحوادث الإرهابية التي أصابت المجتمع ككل, كما حدث في شرم الشيخ وسيناء وأمام مسجد الحسين وغيرها, كذلك دفعت مصر ثمنها في التسعينيات من القرن الماضي, وقد نجح الإرهاب في أن يطور من أساليبه وأدواته ويوسع من أهدافه, بحيث أن أي جهاز أمني مهما كانت قدراته وإمكاناته عاجز عن أن يقتلعه تماما من جذوره فما شهدته العديد من الدول الغربية مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا واسبانيا يؤكد ان الارهاب أضحي أحد المصادر الاساسية التي تهدد السلم والأمن الدوليين, كما أن المعالجة الناجحة له تقتضي التعاون الدولي الجماعي وتطبيق دعوة مصر بعقد مؤتمر دولي للارهاب تضع تعريفا محددا له ويميز بينه وبين المقاومة المشروعة ويضع الآليات الكفيلة بمواجهته. والأمر المهم ان معالجة خطر الارهاب بصورة شاملة لاتقتصر فقط علي الجانب الأمني بل لابد أن تكون ضمن رؤية سياسية واقتصادية وثقافية ترتكز علي اقتلاع مسببات الإرهاب من جذوره, فالواقع ان التدخل الغربي في الشرق الأوسط سواء التدخل المباشر بالاحتلال العسكري للعراق أو التدخل غير المباشر واستمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية يعد أحد المسببات الرئيسية لتغذية ونمو بيئة التطرف والإرهاب. ان مصر التي تشهد حالة من الاستقرار السياسي والأمني منذ فترة طويلة بعد تجفيف منابع الإرهاب, تواجه تحديات كبيرة ومحاولات حثيثة تستهدف زعزعة استقرارها وتطورها من خلال المدخل الطائفي واشعال نار الفتنة بين مواطنيها المسلمين والمسيحيين, وهذه المحاولات لايمكن لها أن تنجح لأن مناعة المجتمع المصري قوية عبر التكاتف بين أبناء الأمة لدرء خطر الإرهاب ومنع أية محاولات لشق الصف, وهو ما أظهرته ردة فعل الشارع المصري كله بعد حادثة كنيسة القديسين وانتفاضته ضد الارهاب وشروره, ولذا فإن الحفاظ علي تلك الحصانة المجتمعية يكون عبر التعامل مع المشكلات التي يواجهها الأقباط في اطار التعامل مع مشكلات المجتمع ككل, وأن يكون ذلك عبر الحوار الهادئ والعقلاني حتي لايجرفنا التيار عن أولويات المجتمع الأساسية وهي تحقيق التطور والتنمية لكل المصريين ومواصلة الاصلاح السياسي والاقتصادي ومواجهة مشكلات البطالة والفقر والأمية والأمراض وكلها تشكل بوصلتنا الرئيسية وطريقنا في مواجهة الارهاب والتعصب, وكل ذلك بعيدا عن أي تدخل خارجي يحاول توظيف ورقة مسيحيي الشرق بشكل سيئ غالبا ما تحركه دوافع تعكس ازدواجية الغرب, كما هو الحال في كل قضايا العالم الإسلامي.