مضنية هي الجهود التي بذلتها مصر من أجل رأب الصدع الفلسطيني الهائل, وإنهاء الانقسام وتحقيق مصالحة بين فصائل تائهة مشغول قادة أكثرها بمصالحهم أكثر مما هم مهمومون بالقضية. ومع ذلك لم تحقق هذه الجهود تقدما, بل صار الوضع الفلسطيني ينذر بمزيد من التدهور, علي نحو يفرض مراجعة المنهج المعتمد في الحوار بين الفصائل عموما وبين حركتي فتح وحماس بصفة خاصة. كان هذا المنهج, الذي يهدف الي تحقيق مصالحة كاملة وشاملة, صحيحا وملائما خلال الفترة الماضية. ولكنه لم يعد كذلك الآن, بعد أن تبين عدم استعداد كل من الحركتين اللتين صارتا سلطتين وهميتين متناحرتين للمضي قدما نحو مصالحة كاملة, وخصوصا حركة حماس التي أحكمت سيطرتها علي غزة البائسة المنكوبة المحاصرة وتحصنت فيها. وحتي بافتراض أنه مازال في الإمكان أبدع مما كان, وأن الحركتين المتخاصمتين يمكن أن تتحركا باتجاه اتفاق للمصالحة, فليس هناك ما يضمن صمود هذا الاتفاق لفترة تزيد علي الشهرين اللذين صمد فيهما اتفاق مكة الموقع في فبراير2007 قبل استئناف الاقتتال وتصاعده وصولا إلي موقعة غزة المؤلمة في يونيو من العام نفسه. كما أن الانتخابات التشريعية والرئاسية التي يفترض إجراؤها بموجب اتفاق المصالحة قد تكون هي الساحة التي سيدفن فيها هذا الاتفاق. فلم يعد واقعيا بأية حال التفكير في انتخابات, مثلما لم يعد مجديا البحث عن مصالحة شاملة. فقد توسعت الفجوة, وأصبح إنهاء الانقسام في حاجة إلي ما يشبه معجزة. وبالرغم من أن هذه الحالة الفلسطينية ليست هي الأولي من نوعها في تاريخ حركات التحرر الوطني لأن كثرة من هذه الحركات انقسمت علي نفسها, فجديد هذه الحالة يجعل المقارنة غير واردة. وفي هذا الجديد ما هو خطير بالنسبة إلي قضية فلسطين التي تعتبر إحدي أكثر قضايا التحرر الوطني عدالة واستعصاء في آن معا. جديد الصراع الفلسطيني يبدو أولا في أن الانقسام ليس سياسيا فقط وإنما جغرافي أيضا. فقد أنتج الأنقسام السياسي فصلا جغرافيا بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي ظل هذا الانفصال, أصبح تنظيم فتح في غزة تحت رحمة حركة حماس وسلطة الأمر الواقع في هذا القطاع. وقل مثل ذلك عن تنظيم حماس في الضفة الغربية. فأصبح كل من التنظيمين رهينة من الناحية الفعلية لدي الحركة المسيطرة هنا وهناك. وفي جديد الصراع الفلسطيني الفلسطيني, أيضا وضع مختلط لا سابق له بين الحركة التحريرية والسلطة الوطنية. فلم تمارس حركات التحرر الوطني السلطة قبل الاستقلال إلا علي سبيل الاستثناء النادر عند تحرير جزء من الأرض المحتلة بقوة السلاح. ولكن لم يكن لهذه السلطة أي طابع رسمي, بخلاف الحالة الفلسطينية. ولذلك لم تعرف حركات التحرر الوطني التي نجحت صراعا علي السلطة الرسمية إلا بعد الاستقلال. وهكذا أصبح واجبا البحث عن منهج جديد لمعالجة هذه الحالة البائسة بالتركيز علي إصلاح منظمة التحرير في مرحلة أولي يكون هدفها هو وقف التدهور في الوضع الفلسطيني وتأهيل هذه المنظمة لتكون هي القاطرة التي تجر الفلسطينيين تدريجيا الي وضع أفضل في مدي قد لا يكون قصيرا. ويعني ذلك أن تكون منظمة التحرير هي قضية الحوار الوحيد خلال الفترة القادمة, وليست أحد بنود هذا الحوار. ومن شأن هذا المنهج أن يصحح خطأ تاريخيا بدأ عندما قررت قيادتها تجميدها عقب اتفاق اوسلو, واعتبار السلطة الوطنية هي الأصل وليس الفرع الذي يمكن أن يسقط أو يجف. كان تجميد المنظمة خطأ تاريخيا في الوقت الذي كان إصلاحها وتطويرها ضروريا. كما كان توسيع نطاقها وضم الحركات الجديدة, وأهمها حركتا حماس و الجهاد إليها أكثر من ضروري. وكان مشروع إصلاح المنظمة وتوسيع نطاقها مطروحا بالفعل منذ بداية العام1990, أي بعد نحو عامين علي تأسيس حركة حماس. ففي بداية ذلك العام, وجه رئيس المجلس الوطني للمنظمة حينئذ الشيخ عبدالحميد السايح دعوة إلي هذه الحركة للمشاركة في لجنة لدراسة معاييراختيار اعضاء المجلس وتطوير المنظمة. ولم يكن معروفا خلفية امتناع حماس عن المشاركة في تلك اللجنة, إلي أن أصدر إبراهيم غوشة أحدا قادتها المؤسسين مذكراته أخيرا عن مركز الزيتونة للدراسات في بيروت تحت عنوان المئذنة الحمراء سيرة ذاتية. وروي غوشة أنه قاد اتجاها رفض الانضمام الي منظمة التحرير خوفامن ان يكون هذا فخا منصوبا للحركة للمشاركة في كيان( لم يتشكل بطريقة نزيهة واعترف بالقرار242 الذي يتنازل عن78 في المائة من فلسطين) وفقا لروايته. وانتصر هذا الاتجاه علي اتجاه آخر كان يفضل المشاركة. ولكن حماس سعت إلي تصحيح هذا الخطأ التاريخي بعد ذلك بقليل, وأبدت استعدادها للانضمام إلي منظمة التحرير بشرط أن يكون مجلسها الوطني منتخبا, وأن يكون له حق النظر في جميع القرارات والاتفاقات التي عقدت من قبل. وكان هذا شرطا مستحيلا. ولذلك استخفت به قيادة المنظمة ولم تسع الي حل وسط مع حماس, وإنما عرضت عليها عرضا يستحيل قبوله بدوره, وهو18 مقعدا في المجلس الوطني الذي يزيد عدد أعضائه علي الخمسمائة, أي أقل من4 في المائة من عضويته. وكان هذا جزءا في سلسلة طويلة من الأخطاء المتبادلة التي أخذت تتراكم فأنتجت الانقسام الراهن, وما يقترن به من انفصال جغرافي. ومع ذلك يظل إصلاح منظمة التحرير وإعادة بنائها هو السبيل الي احتواء هذا الانقسام تدريجيا, الأمر الذي يفرض تغيير منهج الحوار الفلسطيني, بحيث يوضع إصلاح هذه المنظمة وإعادة بنائها في صدارته. ويقتضي ذلك أن تواصل مصر إدارة الحوار الفلسطيني مع إعطاء الأولوية لتجديد الميثاق الوطني لمنظمة التحرير وبرنامجها السياسي علي أساس اتفاق حد أدني, والتركيز بالتالي علي مانصت عليه إحدي المسودات الأخيرة التي طرحتها القاهرة, وتضمنت في أحد بنودها: تطوير وتفعيل منظمة التحرير بحيث تضم جميع القوي والفصائل, والحفاظ عليها إطارا وطنيا جامعا ومرجعية سياسية عليا, وانتخاب مجلس وطني جديد في الداخل والخارج حيثما أمكن. ويتضمن هذا البند ثلاثة مبادئ أساسية تصلح للانطلاق منها في عملية تاريخية لإعادة بناء منظمة التحرير. وأول هذه المبادئ أن تجمع المنظمة مختلف القوي والفصائل, وبالتالي ينضم اليها من ظلوا خارجها حتي الآن. والمبدأ الثاني هوأن تبقي المنظمة إطارا ومرجعية عليا للعمل الوطني الفلسطيني. أما البند الثالث فهو انتخاب مجلس وطني جديد لأن هذا المجلس هو القاعدة التي ستقوم عليها مؤسسات المنظمة. وإذا تحقق ذلك, فقد يفتح الباب تدريجيا أمام المصالحة الكاملة التي تبدو مستحيلة الآن. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد