اصابنا الفزع جميعا مما جري في مطلع هذا العام بكنيسة القديسين, ارتفعت اصوات الجميع تدين ما حدث, وانهالت تحليلات المثقفين لما جري, وارتفعت اصوات تدعو إلي ضرورة التفرقة بين القتل الطائفي والقتل الإرهابي رغم ان القتل هو القتل ورغم ان القتلة قد استهدفوا اقباطا مصريين يؤدون صلواتهم في كنيسة, ورغم ان القتلة قد اعلنوا علي شبكة الانترنت بوضوح قاطع هدفهم من غزوة الاسكندرية كما اسموها. وسارعت بعض التحليلات تنفي نفيا قاطعا لاحتمال ان يكون المجرم مصريا مسلما, وارتفعت الاصابع تشير بعيدا إلي خارج الحدود من افغانستان إلي إيران إلي إسرائيل كما لو كنا قد نسينا ان طارق عبدالعزيز عيسي الشاب المتهم بالعمالة للموساد والذي القي القبض عليه أخيرا كان يحمل جواز سفر مصريا, ورقما قوميا مصريا يحمل بيان الديانة. وارتفعت اصوات بعض المسئولين تحذر من الصيد في الماء العكر, وانتهاز الفرصة للمطالبة بفتح ملفات الفتنة الطائفية في هذا التوقيت حرصا علي وحدة الصف الوطني باعتبار ان الشحن الطائفي قد ضرب بجذوره في اعماق الشخصية المصرية بحيث ان فتح تلك الملفات في هذا التوقيت كفيل باشعال الحريق. لقد كان فتح تلك الملفات محل نقاش لم يكتمل قط, شارك فيه كاتب هذه السطور ضمن آخرين بكتابات امتدت من السبعينيات حتي اليوم, ودعوت فيه صراحة لفتح الجرح الطائفي وتنظيفه, مؤكدان ان نسيجنا الوطني رغم ما يعانيه من علل مازال سليما قادرا علي المقاومة, وكان البعض يتهمني بالتفاؤل الساذج والتعلق بالأوهام حين كنت اشير إلي نقاط ضوء اعتبرتها تعبر عن جوهر الروح المصرية الوطنية؟ واذكر في هذا المقام نظرات الاندهاش وعدم التصديق بل والتشكيك حين عرضت أخيرا في رحاب مكتبة الاسكندرية نتائج بحث ميداني تلمح إلي تمسك المصريين فضلا عن غالبية ابناء الدول العربية بخيار الدولة الوطنية في مقابل خيار الدولة الدينية. لقد وقف مرتكبو الجريمة من بعيد يرقبون نتائج فعلتهم لجني ثمارها: تري كيف ستكون ردة فعل الكنيسة القبطية المصرية وعوام المصريين من اقباط ومسلمين: ها هي الكنيسة تري اشلاء ابنائها تتناثر ملطخة بالدم, هل سيدفعها الغضب إلي دعوة الانفصال والتدخل الاجنبي؟ هل ستسود جماهير المسلمين اصوات تحمل الاقباط مسئولية ما حاق بهم؟ وخذلت كنيستنا الوطنية توقعات المجرمين وارتفع الصوت العاقل لقداسة البابا شنودة يدعو للغضب بوقفة جادة حيال مشكلات الاقباط ويبادر قداسة البابا وفضيلة شيخ الجامع الأزهر وفضيلة المفتي بالدعوة لتشكيل ما أسموه بيت العائلة المصرية لمعالجة تلك المشكلات الطائفية. وهرعت الجماهير المصرية إلي الشارع لافرق بين مسيحي أو مسلم ومتدين أو علماني ورجل أو امرأة, لتحمل هتافاتهم ولافتاتهم ردا قاطعا صارخا فاجأ الجميع: لم يتجمع الاقباط في الكاتدرائية كما اعتادوا في أوقات الضيق, بل اتجهوا جميعا إلي الشارع او ما يطلق عليه الفضاء المشترك, وفي الشارع التحم مسلمو مصر بأقباطها, وكانت نساء مصر المحجبات في مقدمة بعض المظاهرات الغاضبة يحملن المصاحف والاناجيل والصلبان ويلوحن بشعار عاش الهلال مع الصليب. لم تكن مظاهرات عاطفية تحمل شعارات رومانسية, ولم تكن مظاهرات طائفية تدعو لانفصال أو لتدخل اجنبي, بل كان عنوانها الدعوة للعدل, كانت تتجه بغضبها من يتحملون مسئولية إدارة امور هذا الوطن, داعية اياهم إلي العدل, مطالبة اياهم بسرعة القبض علي مرتكبي الجريمة وتقديمهم للعدالة, ومطالبة اياهم بسرعة الحسم العادل لما هو عالق بنسيجنا الوطني من شوائب طائفية, لقد كانت المظاهرات تعبيرا مجسدا لمبدأ المواطنة: من يشك ظلما فليتجه إلي السلطة المدنية المسئولة عن إدارة شئون الوطن, بدلا من الاتجاه إلي ممثلة الطائفي. ومما استوقف النظر حقا غياب تنظيمات الحزب الوطني عن مظاهرات الشارع رغم مشاركة رموز الحزب والحكومة في اداء واجب العزاء في الكاتدرائية, تري هل يرجع ذلك إلي إدراك القائمين علي تلك التنظيمات وبحق ان المظاهرات كانت تتجه إليهم مطالبة اياهم بالعدل في الشأن الطائفي باعتبارهم اصحاب السلطة؟ أم تراه يرجع إلي تردد بيروقراطي تقليدي راسخ في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب؟ لقد تجلي ذلك ايضا في الاحجام عن إعلان الحداد القومي علي شهداء الكنيسة كما كان الاحجام عن إعلان الحداد القومي علي غرقي العبارة منذ سنوات, ولعل الأمر يرجع ايضا إلي ذلك الاحجام التقليدي ولانقول التعالي عن كل ماهو جماهيري شوارعي. لقد اسهم ذلك الغياب في إيجاد انطباع ان ماشهده الشارع المصري هو نوع من مظاهرات المعارضة, ومن ثم فقد تعاملت اجهزة الأمن معها باعتبارها كذلك وان حكم تعاملها والحق يقال قدر ملحوظ من التعقل وضبط الاعصاب, ولم يحل ذلك دون مناوشات بل واعتقالات لبعض الشباب الذين سرعان ما افرجت عنهم النيابة. ويبقي في النهاية ان تدرك السلطة ولعلها قد ادركت بالفعل ان المسئولية اصبحت تقع علي عاتقها وحدها دون منازع باعتبار ان لها اليد العليا علي اجهزة الاعلام المصرية ومؤسسات تربية النشء, وانه في ظلها خفت صوت الوسطية الإسلامية, وشحبت الرموز المسيحية في الخطاب الاعلامي والتربوي, وساد ما يطلقون عليه تيار الفقه الصحراوي, ورغم ذلك المناخ الضاغط فقد اسقطت ردود الفعل الأخيرة لما جري في الإسكندرية وهم ان الشارع المصري قد اصبح طائفيا ومن ثم يجب التحسب من ردة الفعل الجماهيرية حيال معالجة حقيقية عادلة لما يؤلم الاقباط. لقد قال الشارع كلمته, فماذا انتم فاعلون؟