للأسطورة الشعبية سلطان علي جميع البشرية من قديم الأزل وسوف يبقي مطاولا للأبد, ولقد تكون أمة من الأمم أنجزت المعجزات في التقدم العلمي والفكر العادي لا تؤمن إلا بما قام عليه دليل مادي عملي معملي. إلا أن علماءها ومفكريها يعتبرون الأسطورة لغة فنية عالية المقام تعكس فكرا بشريا يضرب بجذوره في عمق التجربة الإنسانية ومكابداتها البكر في محاولة التفاهم مع الكون لفهم نواميسه وفض غوامضه والتحاور مع كائنات غير بشرية بعضها خفي وبعضها ظاهر; كما أنها كانت استشرافا للمستقبل بل إن خيالها الجامح الحالم كان بمثابة نبوءة تحققت بفضل الأبحاث العلمية وتقدم التكنولوجيا مثال ذلك بساط الريح الذي امتلأت به حواديت ألف ليلة وليلة. لقد أصبح متحققا في الطائرات, بل اتسع أفق التقدم وتجاوزت معجزاته خيال الأساطير فأصبحنا ننتقل بصواريخ إلي الكواكب الأخري, ونخطط لاحتلالها, كذلك الامر بالنسبة لخاتم سليمان الذي نضغط عليه او نلمسه فينطلق فيلق من الجن لتحقيق ما نطلبه حتي ولو كان في أقاصي الأرض يأتينا في لمح بالبصر. هانحن اليوم نلمس زرا في جهاز فيأتينا العالم كله لنختار من أعاجيبه ما يروق لنا. الأسطورة هي زبدة الحلم البشري مصاغا في عمل فني, في حدوتة أبطالها ناس وجن وحيوانات وحشرات وغابات وأنهار وبحار وسماوات لا نهائية. هي تاريخ التفتح والوعي والتطلع والبحث عن حقائق الأشياء وبواطن الظاهرات الراسخات. وهي كذلك لعب مع الكون بمحاكاته في الخرق والغموض ربما لاستئنائه وكشف دواخله. كما أن الاسطورة في ذاتها كشوف وفتوحات تاهت معها بعد ذلك كشوفات وفتوحات اقطاب الصوفية العظام. ونحن البشر علي جميع أنحاء الأرض نصدق الأسطورة الشعبية مع علمنا اليقيني بأنها محض أسطورة لم تحدث بل هي غير قابلة للحدوث في الواقع علي الإطلاق. ذلك لأنها قد بنيت علي منطق فني خاص بها, يجعل منها منطوقا فكريا مفعما إن منطقها أقوي من الواقع الذي نحياه بالفعل مع أنه كثيرا ما يبدو بغير منطق علي الإطلاق. وإذن فنحن نصدقها بامتنان عظيم, إكراما لخاطر المعني الكبير الذي تحتويه. قد نستهجنها لأول وهلة نتيجة لاستعلائنا المسبق علي كل ما يدخل في باب الخرافات, وكل ما لم يقم عليه دليل مادي حاسم, غير أننا ما نلبث حتي نتوقف صاغرين لمراجعة أنفسنا علي ضوء ما في الأسطورة من ومضات خارقة تشي بأنها صادرة عن معدن ثمين أو حجر كريم.. إن ضوء العرق والمكابدة في التجربة الإنسانية. سرعان ما تشم فيه رائحة عرقك. جبلته أن يحتل وجدان المتلقي بمجرد استماعه إليه أو قراءته له. إلا أنه المحتل الوحيد الذي يستحق أن نسميه بالاستعمار, لأنه يستعمر وجدانك بالفعل, يقيم فيه الجسور ويفتح السكك علي العمران الإنساني. تلك هي جبلة العمل الفني العظيم, وكل عمل فني عظيم صار عظيما لأن مبدعه بوعي أو بالفطرة يحاكي طموح الأسطورة التي أمدت طفولته بالعمران وحرضت ملكاته علي التفتح. وفي الخيال الشعبي المصري علي وجه التحديد تختزل الأسطورة في أمثولة تفتن جميع العقول في جميع مستوياتها الثقافية والعلمية والفكرية. تصبح مصباحا يضيء أبدا بغير زيت إلا في إمكاناته الذاتية. تصير كيانا فنيا مشعا بالمعطيات الانسانية فيداوله الناس في حميمية المأثور الدارج. تستوقفني وحدة من هذه الأماثيل الأسطورية كانت شائعة في نواحينا نحن أبناء محافظة كفر الشيخ الفخورين بأبي العينين قطبنا العارف بالله سيدي ابراهيم الدسوقي, صحيح أنه من أصل مغربي شأن جميع الأولياء أصحاب الأضرحة في ربوع مصر, ولقب سيدي جزء من مغربيته, إلا أن شمس مصر قد مصرته, وإيمان مصر الزراعي قد شففه, وشعب مصر أحاطه بالدفء وتوجه بطلا من أبطال التحرير في إحدي الحروب الصليبية, وكانت بطولاته مثل قرينه وبلدياته سيدي أحمد البدوي نوعا من التجليات والرؤي والكشوفات يستلهم منها المريدون أعمالا فدائية ومفاوضات لفك الأسري وما إلي ذلك, حتي بات قطبا من الأقطاب, بات أسطورة أنشأها الوجدان الشعبي ليحاكي بها بطولاته. وليس ثمة من شك في أن محافظة كفر الشيخ قد شرفت بوجوده في مدينة دسوق التي شرفت هي الأخري بأن حمل الدسوقي اسمها. فبفضله قام العمران في المدينة واكتسبت به عراقة وتميزا, وبفضل الاحتفال السنوي بموعده نشطت تجارات, وتوثقت علاقات ونبغت فنون الموسيقي وانتهاء بكافة الألعاب الشعبية ناهيك عن ان مسجده كان ولا يزال مصدرا للعلم والتنوير ونشر التقوي نحن واجداد أجدادنا كنا نذاكر دروسنا في أروقته وبين بواكيه طوال اعوامنا الدراسية وجميعا استمعنا الي هذه الامثولة عشرات المرات من مريديه علي هذا النحو: يحكي ان درويشا من احدي القري المتاخمة لدسوق كان خادما خصوصيا لأبي العينين ابراهيم الدسوقي. لا يغادره برهة واحدة حتي اذا نام الشيخ ينام هو تحت قدميه ليلبي نداءه في أية لحظة, مدة خدمته للشيخ تطول الي سنوات مضت ليس يعرف عددها. وقد حدث ان اشتاقت اليه أمه, فسافرت الي دسوق سيرا علي قدميها. اقتحمت خلوة الشيخ تسأل عن ابنها فإذا بها تراه متربعا امام باب الخلوة يتناول غداءه النفسي: رغيف وباذنجانه منقوعة في المش وأعواد من الفجل. ونظرت في الخلوة, فرأت الشيخ قابضا بيديه علي دجاجة مشوية يلتهم نسائرها في لذة. فصعب عليها ابنها. قلبها الريفي النقي لم يقبل هذه المفارقة القاسية لكنها دخلت لتسلم علي الشيخ لم تستطع امساك لسانها, قالت له: بقي يا مولانا الولد يا قلب امه بيخدمك بعينيه ليل نهار وسايبه ياكل رغيف مشضض بمش وانت من غير مؤاخذه بتاكل فرخة مشوية ما تقولوش خد نسيرة من نفسك؟! استمع اليها الشيخ مبتسما وكان قد مصمص عظام الدجاجة فلم يبق منها سوي كومة من العظم. فما كان منه إلا أن شوح بيده في العظم هاتفا: هش.. فدبت الحياة في كومة العظم, وانتفضت الدجاجة حية وقامت تجري الي الخلاء عندئذ نظر الشيخ إلي المرأة قائلا: لما ابنك يقدر يعمل دي.. يبقي ياكلها!. عند هذا الرد المفحم لا ينبغي أن تشغلنا مسألة الواقعية. بل لم يعد يعنينا اذا كان هذا الذي حدث قد حدث بالفعل من الشيخ أم أنها محض أسطورة؟ ذلك ان الامثولة صارت مكتفية بذاتها في صياغة معني كبير يجب عليك احترامه بكل التقدير. ثم إننا بقليل من التأمل في الحدوتة قياسا علي تعقيب الشيخ علي نهايتها بقوله: لما ابنك يقدر يعمل دي يبقي ياكلها; نجد ان كائنا من كان لا يمكن ان يضعك في موقف العز مالم تكن أنت نفسك مؤهلا لذلك من داخلك ساعيا إليه بالجهاد المتواصل.. ونجد أن الإنسان يصنع مجده بإمكاناته الذاتية وباجتهاده ودأبه علي الجد والمثابرة, فالباني طالع والفاحت نازل. ونجد أن القيمة الحقيقية للمأكل والملبس والمشرب ولكل متع الحياة مرهونة بأن يكون ثمنها من كدك وعرقك, ومالك الحلال, أما ما يحصل عليه الانسان علي سبيل الصدقة أو الفضل فليس له في نفس الكريم الأصيل لذة ولا قيمة. هذا في إطار الدلالات المتعددة للأمثولة التي لم تعد أسطورة بل إنها معادلة ذات منطق متسق تمام الاتساق. تصير كذلك بالفعل اذا حللناها علي أرضية الواقع اليومي البسيط. عندئذ نجد أن عملية النفخ في العظام حتي تصير دجاجة حية تسعي إنما هي معادل أسطوري لمعني واقعي ملموس, هو معني القدرة المادية, فأن تقوم بإحياء الدجاجة ليس بالضرورة إحياءها من العدم, بل القدرة علي إيجادها وقتما تشاء, تشتريها من المحلات تملأ ثلاجتك بها, أو تربيها.. المهم أن يكون ذلك من خيرك أنت لا من خير الغير حتي وإن كان الغير سيدك الذي تتفاني في خدمته.