الحديث عن العلاقة بين مصر والسودان ذو شجون لكثيرين, لأنه يسير غالبا في قناتين متقابلتين. فأحيانا يتم اختزال العلاقة في بعد مثالي, حافل بعبارات الروابط والثوابت والميراث التاريخي المشترك.. إلي آخره من كلمات رومانسية أكثر منها سياسية, تدغدغ المشاعر وتلهب العواطف. وفي أحيان أخري يجري تغليب المنهج الصدامي, الذي يقوم علي تعظيم ما يوصف لدي البعض بالدونية التاريخية بين البلدين, بغرض إظهار التباعد والتنافر وتأكيد صعوبة التلاقي والتلاحم. في اعتقادي أن المنهجين علي خطأ. فالعواطف بطبيعتها متذبذبة ومتغيرة. وتتأثر بالأحداث اللحظية والانفعالات الوقتية. وبالتالي تؤدي إلي تصورات مشوهة وهامشية. كما أنه لا يوجد صدام إلي الأبد. وإذا حدثت بعض الأخطاء, فإن تصحيحها واجب, من خلال إزالة الشوائب وتطوير المصالح وتنويع المصادر. من هنا يأتي البعد الثالث الذي بدأت تلتفت إليه السياسة المصرية وتزيد من جرعاته في الآونة الأخيرة. بل تسعي إلي تعزيز وجوده في توجهاتها حيال التعامل مع الأوضاع المعقدة في السودان, كطريق عملي يمكن أن يسهم في تجاوز مطبات كثيرة ويوقف زحف مشكلات عميقة. وقد ظهرت ملامح هذا الاتجاه في تحركات مختلفة وخطوات متباينة مع جنوب السودان, الذي سيجري علي أرضه, بعد ساعات من ظهور هذا المقال, استفتاء منتظر علي تقرير مصيره بالوحدة أو الانفصال. مع ذلك تؤكد معظم المؤشرات أن عملية الاستفتاء تحصيل حاصل, فقد حسم الجنوبيون موقفهم وأعلنوا رغبتهم في التصويت, الذي سيستمر سبعة أيام ابتداء من غد, لصالح الانفصال. وهو ما يعني تغيرات واضحة في خريطة السودان التقليدية. وعدم استبعاد حدوث انعكاسات سلبية علي المصالح المصرية. وقد درج البعض علي تحميل الحكومة عندنا مسئولية النتائج التي سوف تترتب علي الخطوة الجنوبية. تارة, بتهمة التقاعس عن حماية وحدة السودان وتركه نهبا للمؤامرات الخارجية. وأخري, بسبب عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتطوير العلاقات مع الخرطوم وتفضيل التعامل مع الكيان الوليد مباشرة. وثالثة, ذهبت إلي حد الاتهام بعدم تقديم مبادرات إيجابية لحل الأزمات السودانية, التي تراكمت بصورة تهدد فعلا الحفاظ علي وحدة البلاد التاريخية. فاليوم الجنوب وقد يأتي الدور غدا علي الغرب والشرق. من غير الإنصاف تحميل مصر وحدها مسئولية إنفصال جنوب السودان. فهناك أخطاء ارتكبتها الحكومات المتعاقبة في الخرطوم فرضت هذه النتيجة. كما أن الكثير من القوي الدولية لعبت دورا مهما في تمهيد الطريق لتنفيذ سيناريو الانفصال. واستخدمت كل أنواع العصي والجزر في التعامل مع الخرطوم, للوصول إلي لحظة سلخ الجنوب عن الشمال. واستفادت في ذلك من عاملين. الأول, سعي معظم النخب والقيادات الجنوبية إلي جعل خيار الانفصال جاذبا, علي حساب الوحدة, وتقديم التفسيرات الكافية لتبرير هذا الخيار وتسويقه اقليميا ودوليا. والثاني, فشل الخرطوم في اتخاذ السياسات الضرورية التي تؤكد إيمانها الحقيقي بالوحدة. وربما يكون العكس هو الصحيح, فقد كان الاختيار مرا, بين الحفاظ علي وحدة يمكن أن تفقد السودان وجهه الحضاري المعروف, لصالح سودان آخر( سمي بالسودان الجديد) يميل ناحية الجنوب الإفريقي, وبين بقاء النظام الراهن, مقابل التضحية بالجنوب والتخلص من صداع مزمن في رأس الخرطوم. كان الاختيار الثاني هو الأقرب لقناعات النظام الحاكم في الخرطوم. وهو ما أدركته دوائر مختلفة واستفادت منه في المضي بسيناريو الانفصال إلي بر الأمان. وسط عملية متقنة لترطيب الأجواء وتهيئة المسرح وتوفير كل لوازم الديكور السياسي مبكرا. الأمر الذي انتبهت إليه مصر منذ فترة. وبدأت بموجبه تبني سياسة واقعية, بعيدة عن المدي, مع جنوب السودان. تقوم علي نسج شبكة جيدة من العلاقات مع جوبا, من خلال تعزيز سلاح المساعدات الانسانية وتطوير البني التحتية. ففي السنوات الأربع الماضية أنفقت مصر في الجنوب حوالي نصف مليار جنيه, علي هيئة مستشفيات ومدارس ومحطات كهرباء وري وجامعة. فضلا عن افتتاح خط طيران مباشر من القاهرة إلي جوبا وعودة برنامج المنح التعليمية للجنوبيين في الجامعات المصرية. وما يشجع علي ذلك أن25 وزيرا في حكومة الجنوب من أصل32 من خريجي الجامعات المصرية. لا يمكن إنكار أن علاقات القاهرة- جوبا شهدت في السنوات الأخيرة طفرة في مجالات مختلفة, حيث جري اللجوء إلي تنشيط ما يسمي بالقوة الناعمة المصرية, لكن هذا الطريق لا يزال محدودا, لأن هناك دولا بدأت تلعب دورا أكبر في فضاء جنوب السودان, سواء علي مستوي المساعدات بأنواعها أو الاستثمارات بأشكالها. كما أن تكثيف أوجه التعامل مع جوبا وبصورة مباشرة, ربما يؤثر علي علاقتنا بالخرطوم, التي تمسك بمفاتيح بعض الملفات, وتملك من الأدوات ما يفضي إلي كثير من المنغصات السياسية والأمنية. لذلك من المفيد الالتفات إلي أن توطيد العلاقات مع جوبا من الواجب ألا يؤدي إلي خسارة الخرطوم. وسيكون التنسيق معها في المرحلة المقبلة عملية مصيرية. فعلي حد قول وزير الخارجية أحمد أبو الغيط أن السودان يأتي في مقدمة التحديات الرئيسية التي تواجه الدبلوماسية المصرية. بمعني آخر, أنه أصبح متقدما علي القضية الفلسطينية. الواقع أن الاعتراف بأن السودان هو التحدي الأول ينطوي علي مجموعة من الدلالات. أبرزها ضرورة صياغة رؤية استراتيجية واضحة للتعامل مع أزمات السودان وبصورة متكاملة. فانفصال الجنوب لا يعني فك الارتباط مع الشمال. فهناك قائمة طويلة من القضايا الشائكة والمعلقة, التي يمكن أن يؤدي انفجارها وبسهولة إلي خلط كثير من الأوراق الحالية. وبشكل يمكن أن تمتد تداعياته إلي جملة من المصالح المصرية. بالتالي فإقامة علاقة متوازنة بين جوباوالخرطوم مسألة حيوية, علي أن تكون الأخيرة نقطة انطلاق ومدخلا طبيعيا للأولي. ولا يعني تزايد العلاقات الاقتصادية بين القاهرةوالخرطوم وتجاوزها الستة مليارات دولار, أن الأمور تسير علي ما يرام. فالرسائل التي تحملها بعض التحركات نحو جوبا فهمت خطأ في الخرطوم, بما يقود في المستقبل إلي نتائج سيئة, سواء من خلال تعمد نكأ بعض الجروح( مثلث حلايب), أو عبر فتح الباب لاجتهادات جديدة في ملف المياه الساخن, لاسيما أن ظهور دولة الجنوب ربما يعطي ذريعة لتأكيد الحديث عن إعادة تقسيم الحصص, ويتم تجاهل حق الدولة الناشئة في أخذ حصتها من الدولة الأم. من ناحية أخري, يمثل تقديم مبادرة مصرية شاملة ومتماسكة بشأن السودان في الوقت الراهن, خطوة مهمة لتبديد هواجس كثيرة ومصدرا لاستعادة الثقة مع قوي سودانية تنحدر من مشارب متعددة. والابتعاد مثلا عن ملف دارفور يمكن أن يفضي إلي تكرار سيناريو الجنوب, خاصة أن تلميحات متمردي دارفور بدأت تتحول إلي تصريحات في هذا المجال. كما أن التوترات الموجودة في شرق السودان, أصبحت مهيأة لأن تجلب معها مشكلات لمصر, في ظل ما يتردد عن حملات تهريب سلاح قادمة من جهات مختلفة, ووسط ارتفاع حدة النعرات الإقليمية. لذلك فالمعضلة الكبيرة لانفصال الجنوب, تكمن في ما تحمله هذه الخطوة من نتائج سلبية علي الصعيدين السوداني والإقليمي, وتحديد البوصلة السياسية للتحركات المصرية لتجنب تكرار الأخطاء.