أعتبر نفسي متابعا للتطورات التي تشهدها إيران بدرجة كافية, أو هكذا اعتقد, غير أنني لا أدعي بأنني خبير متخصص في شئون هذا المجتمع المدني العامر بالحيوية. وقد نجح مشروع الخليج2000 بجامعة كولومبيا. والذي تشرفت بعضويته, في تحليل تطورات الأوضاع المتسارعة في إيران إلي حد بعيد, ومن بين ما نشر في إطار هذا المشروع مؤخرا تحليل تحت عنوان: موسوي يرفع الراية البيضاء, وهو عنوان يلخص بوضوح وجهة نظر معينة للوضع الراهن للمعارضة الإصلاحية في إيران في ضوء مبادرة السيد مير حسين موسوي التي جري الإعلان عنها في بداية العام الجديد, غير أنني بعد قراءة هذا التحليل مرتين وبإمعان وصلت إلي قناعة مفادها أن فرضيات التقرير واستنتاجاته حول الأوضاع في إيران تتطلب جرعة معقولة من التحليل النقدي. وإذا كانت الحجة الرئيسية التي يستند إليها التقرير هي أن السيد موسوي ورفاقه الإصلاحيين كانوا ومازالوا يواجهون ضغوطا أمنية وسياسية قوية, فليس لدي خلاف مع هذه المقولة, وإذا كان المقصود أنه أظهر في مبادرته استعدادا لقبول شروط أدني من الحدود القصوي المأمولة من جانب كل أطياف المعارضة الإيرانية, فأنا وكثيرون غيري يتفقون مع هذا التوصيف بكل تأكيد. ولا يدعي أحد أن موسوي كرئيس وزراء سابق هو قائد راديكالي من طراز نيلسون مانديلا أو فلاديمير لينين, غير انه قد يحسن بنا أن نتذكر أن لينين الزعيم الراديكالي كان هو الذي توصل إلي نتيجة لا لبس فيها ولا التباس, فحواها: أن أكثر المواقف تطرفا ليس هو بالضرورة أكثرها ثورية ولا حتي أكثرها تأثيرا!. وعلي ضوء ما يجري في إيران, أتصور أن موقف المعارضة ونهج السيد موسوي قد أصبح أكثر حركية وفاعلية, وذلك رغم عدم توافر ما يشير إلي استعداد الطرف المسيطر علي جهاز الدولة للتجاوب بمرونة مع مبادرة السيد موسوي ابتغاء لمصلحة مجتمعية أعلي وأسمي, ولتفادي ازدياد تفاقم الأوضاع في إيران, وهو موقف أكاد اقطع انه لم يكن مفاجئا لموسوي الذي يحتل احد مواقع القيادة في ائتلاف سياسي عريض ويتعرض لضغط أمني شرس, كما لم يكن لهذا الموقف أن يمنع موسوي من طرح مطالب هي بالتأكيد أقل مما هو مثالي, أي مطالب الحد الأقصي, فمبادرته مبنية علي تمييز واضح بين الرغبة والقدرة في لحظة تاريخية معينة, وحالة إيران الآن ليست السابقة الأولي والوحيدة في هذا الصدد. ولا يخفي علي كثير من المراقبين للشأن الإيراني, وأنا واحد منهم, إن الوضع الراهن لائتلاف خامنئي- أحمدي نجاد هو وضع مرتبك, ولا يعكس رؤية استراتيحية متماسكة تخدم مصلحة هذا التحالف. وفي الواقع ربما كان أفضل توصيف للاستراتيجية الحاكمة للنظام الإيراني في هذه المرحلة هو المفهوم المعروف في العلوم السياسية بشكل عام تحت مسمي التوظيف السياسي للجنونThePoliticalUsesofMadness والعياذ بالله!, والمهم أن ندفع بهذا التحليل خطوة أخري للأمام بالقول بأنه ليس من أنجح المناهج والمواقف في مواجهة هذه الحالة اللجوء إلي أسلوب المناطحة اللامتناهية وبدون أي برنامج سياسي, فلا يعقل أبدا إذا ما افترضنا درجة معقولة من الرشد السياسي أو الحسابات الاستراتيجية, تبني تلك المناطحة بغض النظر عن تكلفتها في المواجهات المصورة عبر أجهزة الهاتف النقال خلال مناسبات دينية تثير الشجون, فيجب ألا تكون هي المسار الوحيد لتحرك المعارضة الإصلاحية, بل يجب بحكمة- وهذا ما أدركه السيد موسوي- أن يصاحب هذا المسار برنامج سياسي يحافظ علي تماسك الائتلاف المعارض ويحافظ علي الانكماش النسبي للتوافق في داخل المعسكر المحافظ الحاكم, كما هو واضح من التباين في موقف محسن رضائي أحد أركان هذا المعسكر, والرئيس الإيراني احمدي نجاد الذي يشك كثيرون في سلامة انتخابه كرئيس للجمهورية. إن مبادرة موسوي والتي أيدها في مجملها رضائي المحافظ, وكروبي وخاتمي اللذان ينتميان للمعسكر الآخر, تظهر قيادة التيار الإصلاحي للعالم الخارجي كطرف أكثر عقلانية وأكثر رغبة في التصرف بشكل مسئول حتي في وقت عصيب, وفي وقت أسهمت فيه أخطاء جسيمة من الفريق الحاكم في ربط صورته بالقمع ومؤخرا بالاستبداد. وهنا أود أن أوجه سؤالي لمن يتحدثون عن رفع المعارضة الإصلاحية للراية البيضاء, إذا كانت مبادرة موسوي في العام الجديد خطوة علي طريق تحميل من قاموا في إيران بإطلاق موجة من القمع مؤخرا مسئولية تردي الأوضاع أو تصاعد الاستفزاز, فلماذا لا يحسن السير في هذا الطريق؟. بطبيعة الحال لا يضير من يوصون بالانسياق الكامل للغة السياسة وأنصار استقرار الصدام بالتوقف, أو استراحة مناضل أن يقدموا هذه التوصيات للشعب الإيراني أو للمعارض الإيراني, وهم جالسون علي مسافة بعيدة منه نسبيا وآمنة نسبيا في يوتا أو في باريس مثلا, ولكن هذا يصبح غير مقبول وغير معقول إذا كان الاندفاع بهذا الصدام إلي حدوده القصوي يقود إلي أنهار من دماء الأبرياء, وتمزيق حياة أسرهم إربا إربا تحت دعوي النضال حتي النصر في أجل زمني لا يعرفه احد إلا العزيز الوهاب, وحتي إن كانت جماهير المعارضة الإيرانية غير مسلحة في مواجهة الحرس والميليشيات, ومسترشدة كما يتصور بعض المعلقين في منتدي جامعة كولومبيا بتحليلات المرجع الأشهر لظاهرة واستراتيجية المقاومة غير المبنية علي العنف وأعني به الدكتور جي شارب في جامعة هارفادر!. لنعد حثيثا للواقع الإيراني كما هو قبل استشراف ما ينبغي أن يكون, ففي اليوم الذي سربت فيه دوائر المعارضة الأنباء عن أن مظاهرة ضخمة للغاية علي وشك الانطلاق في مدن ايران الكبري أكدت الوكالة الأنباء الإيرانية الرسمية أن السيد موسوي سجل في قائمة المفقودين في طهران لأنه هرب إلي مكان بعيد, وفي نفس هذا اليوم قدم موسوي مبادرته السياسية التي فيها مطالب وشروط يمكن أن تحظي بتأييد الكثيرين من داخل وخارج التيار الإصلاحي, حتي إن احد أصدقائي وهو خبير في الشأن الإيراني وصف المبادرة بأنها يمكن أن تحظي بقبول لاعبة الجمباز المعروفة ناديا كومبنش!. كما أسلفت فان المطالب- الشروط التي طرحها السيد موسوي كان لها أن تحظي بترحيب او قبول من خصومه المحليين في أو قرب هرم السلطة في إيران, والشواهد كثيرة وهي تتحدث عن نفسها, ومن ذلك المواقف المعلنة من قبل آية الله جنتي وآية الله يزدي وآية الله احمد خاتمي, ومن قبل فتواهم وبعدها, هناك تصريحات لا تكتفي بالاختلاف مع نقاط المبادرة بل وتهدد الآخرين بالقتل جهارا ونهارا, وهي تصريحات أتت أيضا من بعض قيادات الحرس الثوري وأجهزة المخابرات, وهي مواقف تريد في محصلتها وأد المبادرة كليا, وإذا ما بدا أن هذا غير متاح يحاولون تشذيبها أو إفراغها من مضمونها بشكل حاسم. ولمن تصور أنني قد أكون مبالغا في هذا أرجو أن يتفضلوا بمشاهدة صور منشورة لبضع مئات من العناصر اليمينية المتشددة والمسلحة, يرابطون بكل الحزم والإصرار أمام منزل المرشد الأعلي السيد علي خامنئي طالبين الإذن باغتيال زعماء المعارضة, الذين وصفوهم بالمرتدين وأعداء الله, وهي مطالب تنذر في حال تنفيذها بعواقب وخيمة. وقائمة المرغوب في قتلهم تتضمن موسوي بطبيعة الحال ومهدي كروبي وخاتمي الرئيس الإيراني في ظل النظام الإسلامي. كما استمرت موجة التخويف والردع باعتقال صحفيين بارزين مثل السيد ما شاء الله شمس الواعظين والذي ادعوا أن يفك أسره في القريب العاجل, وهو الذي اختلف مع سياسات النظام الحاكم بالقلم والتحليل وليس بتمويل الميليشيات, ورأينا بأعيننا مشاهد مؤلمة للتحرش بمن جاءوا لتأبين العالم الراحل آية الله حسين منتظري, وقرأنا في مصادر عديدة عن هجمات أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للنظام التي اقتحمت مكاتب قيادات دينية لمجرد اختلافها بالفتاوي مع أصحاب السلطة. أردت من هذا الاستعراض السريع لبعض حماقات القوة أن أمهد لسؤالي التالي وهو بإيجاز: هل تنتمي هذه القائمة الطويلة من الممارسات تحديدا لمفاهيم الحكمة والذكاء ناهيك عن الإبداع؟, لا اخفي علي احد أنني اعتقد هذا, ولكن يتوجب علي هنا أن أقول بأنه من الممكن توجيه عدو اصغر نسبيا من مجمل المرابطين أمام أي من تلك العناصر شديدة الغضب وسريعة الانفجار, إذا جاز التعبير, لتصفية شخصيات معارضة يتم الإلحاح علي اتهامها بالردة عن الإسلام وبالعمالة لبريطانيا, وتهديد امن إيران بغض النظر عن وجود أو عدم وجود مبادرة موسوي أو أي خطوة عقلانية أخري. ودون أن ادعي فهم موسوي وأركان معارضته تماما, أنا اعتقد أنهم انتصروا في صراع الإرادات في نظام غير متماسك بدرجة كافية في رؤيته الإستراتيجية علي الأقل منذ شهر يونيو2009, من خلال المظاهرات والتعبئة السياسية, وقرار المبادرة لم يكن فقط من بنات أفكار موسوي, ولكنه اتخذ وجرت مراجعته بعد التشاور مع دائرة ضيقة من المستشارين ممن لم يتم اعتقالهم بعد, ويبقي ممكنا أن تستحث المبادرة والأزمة بعض المحافظين المعتدلين لإعادة ترتيب أولوياتهم بعيدا عن الشروط العقيمة للسلطة إزاء المعارضة: إما التوبة النصوح, وهي غير واردة, أو العقاب الباطش, وهو مكلف سياسيا, وقد أشرت من قبل لموقف محسن رضائي الذي ما زال شخصية فاعلة في أوساط النخب السياسية الإيرانية. وبالنظر مثلا لتنديد أعداد متزايدة من أساتذة الجامعات بالعنف غير المنظم, وبالقيود علي حرية التعبير والتظاهر السلمي, رغم الأخطار الكثيرة التي يمكن أن تجلبها هذه المواقف, وبالنظر أيضا لارتفاع أصوات المثقفين الذين هم موضع كثير من الإجلال العام والاحترام والتي تطالب السيد أحمدي نجاد بالتنحي, ولا يخفي علينا جميعا موقف رؤساء تحرير سبع صحف إيرانية توافرت لديهم الشجاعة لنشر النص الكامل لمبادرة السيد موسوي, رغم إدراكهم لموقف المستويات العليا في النظام إزاءها, كل هذا يؤكد أن إيران اليوم تشهد غضبا لا يمكن تجاهله أو تجاوزه بسهولة. وأنا من بين من يعتقدون أن موسوي وشركاءه في الائتلاف الإصلاحي نجحوا وبمساعدة مذهلة من أصحاب الأمر والنهي في جمهورية إيران الإسلامية, في كسب رصيد سياسي إضافي بعد أن أخذت قيادة السيد موسوي في الاعتبار حقيقتين محوريتين: الأولي: هي فاعلية الضغط علي السلطة الإيرانية من خلال مظاهرات شعبية واضطرابات عمالية داخل وحول كثير من المدن الكبري بشكل فاق كل التصورات والتقديرات السابقة, ومن هنا يصبح إدراج المعارضة الإصلاحية في سجل الوفيات السياسية غير مبرر وغير مفهوم. والحقيقة الثانية تتمثل في انه ما يكاد يكون عقم الاعتماد علي إستراتيجية المناطحة التي لا تتوقف, حتي تحقق نصرا حاسما, وتنجح في تركيع نظام مازال في المواقع قادرا علي ممارسة درجات عالية من البطش بخصومه ومن يؤيدهم. وهنا أود أن اطرح آخر أسئلتي لكل من تابعوا تطورات الحالة الإيرانية الراهنة بغض النظر عن مقولة رفع المعارضة للراية البيضاء, وهي كما أسلفت مليئة بالثغرات, أسأل ببساطة وعلي ضوء كل ما قلت: ما هي الأبعاد الكارثية لتحرك موسوي الأخير علي رقعة الشطرنج السياسي في إيران؟., وهل يمكن لقائد لم يوصف بالكاريزمية مثل موسوي أن يتحول إلي رجل دولة ولكن في إطار قيادة جماعية في المستقبل إذا ما قدر له أن يبقي علي قيد الحياة طبعا؟!. أتمني للسيد موسوي عمرا مديدا وللصديق ما شاء الله شمس الواعظين خروجا سريعا للغاية من غياهب سجون الأمن والمخابرات في إيران. فهما يستحقان وبجدارة ما هو أفضل كثيرا.