ربما هي صدفة, وهذا هو الظن الغالب أن تنشر وسائل الاعلام العالمية مقتطفات من إحدي الوثائق الأمريكية المسربة إلي موقع ويكليكس تنسب إلي سفير مصري قوله إن هناك من عرض علي مصر أن تحصل علي مواد نووية وعلماء بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, وأن الرئيس مبارك رفض ذلك بحزم. صحيح ان الوثيقة تشير إلي تعليق المسئولة الأمريكية روز غوتملر مساعد وزير الخارجية الأمريكية وكبيرة المفاوضين النوويين الامريكيين بأن ما ذكره السفير المصري هو بمثابة محاولة مصر تصوير نفسها علي انها عضو مسئول في المجتمع الدولي. التعليق علي هذا النحو هو نوع من التشكيك في السلوك المصري المسئول فيما يتعلق بعدم الانتشار النووي وعدم الخوض في سباق تسلح نووي. لكن الحقيقة تظل واضحة للعيان بأن مصر دولة مسئولة بالفعل وتمارس سياستها الخارجية بأعلي قدر من الانسجام مع أهدافها التي خططت لها وتتمسك بها منذ عقود طويلة; وأبرزها منع الانتشار النووي وجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل, وربط ذلك عضويا بالاستقرار الإقليمي والسلام العادل. المفارقة هنا أن توقيت النشر عن هذه البرقية جاء متزامنا مع خطاب الرئيس مبارك في افتتاح الدورة البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري, وفي الخطاب ثلاث اشارات مهمة ذات صلة بما ورد في التسريب المشار إليه, فضلا عن أن هذه الاشارات تعكس طريقة التفكير المصرية فيما يتعلق بالقدرات النووية; الاولي أن ما تقوله مصر في السر هو ما تقوله في العلن, مع ملاحظة أن التسريبات وما ورد في البرقيات الامريكية يخضع لبعض التحريف او التأويل غير المنضبط, ومع ذلك فلم يستطع أن يثبت تناقض مصر مع نفسها, بل اثبت تجانس مواقفها المعلنة او غير المعلنة. الثانية أن مصر ستمضي في برنامجها النووي السلمي دون تردد متمسكة بحقها الثابت وفق معاهدة منع الانتشار ومتطلعة للعمل مع كل من يحقق مصالحها. وثالثا أن مصر تفعل ذلك وفق أعلي مستويات التكنولوجيا النووية والأمان النووي ودون مشروطيات تتجاوز التزامات مصر وفقا لمعاهدة منع الانتشار النووي. والمؤكد أن الولاياتالمتحدة وكل الدول الكبري التي كانت تراقب الاتحاد السوفيتي في لحظات انهياره في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي, وتراقب عن كثب قدراته النووية من مواد وعلماء وأبحاث وكل ما يتعلق بالقنابل النووية السوفيتية, كانت علي علم تام بما حدث من محاولات بعض العلماء السوفيت الخروج من بلادهم وبيع ما يملكونه من معرفة وربما بعض مواد نووية جاهزة للعمل إلي بلاد العالم الثالث, خاصة التي لديها قدرات نووية بدرجة او بأخري, أو طمحت آنذاك للحصول علي أسلحة نووية لسبب أو لآخر. وثمة قصص كثيرة منشورة ومعروفة وموثقة عن مغامرات لعلماء سوفيت في عدد كبير من البلدان. والثابت أن مصر لم يرد ذكرها في اي معلومات موثقة بشأن محاولات تهريب مواد نووية سوفيتية إليها. ولكن هذا لا يمنع أن يسعي البعض من هؤلاء العلماء السوفيت في لحظات الانهيار الكبري, وربما أيضا بعض المدفوعين من جهات استخبارتية غربية سعت في ذلك التوقيت إلي توريط مصر في عمل يتصادم مع اقتناعاتها ومساعيها بشأن منع الانتشار النووي سواء في الشرق الاوسط أو في العالم ككل. وبالتالي فهذه الدول الكبري علي علم تام بأن مصر ليست من الدول التي لعبت دورا مزدوجا في هذا المجال المعقد والملئ بألعاب اجهزة الاستخبارات الدولية, وعلي علم تام أيضا بأن القضية ليست الاستحواذ علي مواد نووية أو قنابل, وإنما هي الاهداف الاستراتيجية وراء مثل هذا الاستحواذ. وبالقطع لو أن الولاياتالمتحدة لديها ما يدين مصر في هذا الصدد فلن تتردد في توظيفه ضد المصالح المصرية في كل وقت وحين. والمهم في الرواية الواردة في الوثيقة الأمريكية المسربة أنها تؤكد ثبات السياسة الخارجية المصرية والتزامها بقيم وتعهدات والتزامات دولية بشأن منع الانتشار النووي غير السلمي في وقت لا تعطي فيه دول أخري مثل هذه الأمور الاعتبار الكافي والاحترام المطلوب. التزام مصر بمنع الانتشار النووي يواكبه اقتناع لا تردد فيه بالخوض في المجالات النووية السلمية المشروعة والواردة في معاهدة منع الانتشار من أجل التنمية. وهكذا يجتمع قطبان رئيسيان في سياسة مصر الخارجية, والتي تميز دورها الاقليمي والدولي في آن, وهما أولا العمل من أجل السلام وفق المعاهدات والقانون الدولي, والثاني الالتزام بالتنمية وبتوظيف منجزات العلوم التطبيقية في كل المناحي من أجل التقدم ورفع مستوي المعيشة للشعب المصري. هذا التناسق في الاقتناعات وفي الأداء الخارجي يمتد إلي الطريقة التي يتم بها تطبيق وتوظيف التقنيات النووية في البرنامج السلمي لتوليد الطاقة في منطقة الضبعة, والتي ستشهد انشاء أربع محطات نووية حتي عام.2025 وثمة مبدآن حاكمان هنا, الاول يتعلق بتطوير وتحديث منظومة الطاقة في مصر, والثاني التمسك بأعلي مستويات وتقنيات الأمان النووي وتدريب عالي المستوي للكوادر البشرية المصرية التي ستتولي عبء ومسئولية تنفيذ هذا البرنامج الطموح من أجل الطاقة والتنمية. وفيما يتعلق بتحديث منظومة الطاقة, فمنذ خمس سنوات تم وضع الطاقة النووية لتوليد الكهرباء كعنصر أساسي في استراتيجية الطاقة المصرية, والتي تدور حول عدة محاور, أبرزها زيادة انتاج الطاقة الكهربية من مصادر مختلفة لمواجهة أعباء زيادة الطلب عليها لاغراض الصناعة والزراعة والحياة اليومية للمصريين, وهي زيادة تصل إلي اكثر من7% سنويا, ومن شأنها أن ترتب نتائج سلبية إن لم يتم العمل علي تلبيتها وفق خطة مدروسة لأكثر من25 عاما مقبلة. وثانيا العمل علي أن تكون مصر نقطة التقاء محورية لمصادر ومسارات الطاقة الكهربية علي الصعيد الاقليمي وفي إطار الربط الكهربي الحالي والمستقبلي بين أوروبا والشرق الاوسط, وثالثا أن يتم توليد الطاقة من مصادر متعددة مع أخذ كل الترتيبات لتأمين إمداداتها. وفيما يتعلق بالأمان النووي, فهي قضية محورية لا مساومة فيها, وغير مسموح بالعبث أو التراخي في اي من مراحلها وتطبيقاتها. وأهمية هذه المسألة ليست بحاجة إلي كثير من التفصيل, فأي خطأ في تشغيل المحطات النووية له تكلفته العالية في أرواح الناس وفي تدمير البيئة لمئات السنين وفي تخريب الاقتصاد لسنوات طويلة. وما هو معروف عما نتج من آثار تدميرية عالية حين انفجر مفاعل تشرنوبيل السوفيتي في عام1986 يجعل المرء يرتعد رعبا من تصور حدوث تراخ ما في الأمان النووي. وليس بخاف أن هناك كثيرا من الناقدين للبرنامج النووي المصري لديهم هواجس ومخاوف, ويطرحون مسألة الأمان النووي باعتبارها معضلة كبري لن يكون بمقدور مصر عبر علمائها وتشريعاتها أن تحققها علي الوجه الأكمل, والبعض يطرح مأسي كبري قد تحصل ويدعو إلي وقف العمل في البرنامج ككل منعا لأي كارثة كما يتصورون. هذه النظرة المتشائمة تنطلق من افتراضين, الأول أن حالة عدم الانضباط السائدة في قطاعات عديدة في المجتمع قد تمتد إلي البرنامج النووي سواء أثناء الانشاء أو عند التشغيل بعد تمام الانشاء. والثاني أن قدرات مصر في التعامل مع حوادث نووية كبري إن حدثت لا قدر الله تعالي لن تكون علي نفس المستوي الذي كان موجودا لدي الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات, ومع ذلك حدث ما حدث من خراب وتدمير للبيئة وإزهاق للأرواح. هذا التشاؤم وإن كان له ما يبرره في ظروف الاتحاد السوفيتي في سنوات انهياره الاخيرة, ليس له محل في مطلع القرن الحادي والعشرين. فمستويات الأمان النووي السائدة الآن في المفاعلات النووية العاملة في كل البلدان المتقدمة اقتصاديا هي الأفضل والاكثر تطورا مقارنة بما كان عليه الوضع في مفاعل تشرنوبيل السوفيتي, وبالتأكيد فإن العمل في محطات نووية له محدداته وقيوده والتزاماته التي تقدرها الدولة تماما, كما يقدرها العاملون في هذا المجال الأكثر تطورا تقنيا والأكثر حساسية أيضا. ومن غير المتصور أن تقدم دولة بحجم مصر وخبراتها وكفاءات علمائها علي برنامج طموح للطاقة النووية دون أن تضع الضوابط الصارمة للوصول بمستويات الأمان إلي اقصي الدرجات المعمول بها عالميا. فضلا عن أن التزام مصر الكامل بالتعاون الشفاف مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في جميع المراحل بداية من مرحلة الدراسات الأولية, وما يليها من مراحل الانشاء ثم التشغيل الفعلي, وهو التزام متبادل, ومن شأنه أن يسهم في انجاز البرنامج النووي السلمي وفق أفضل المعايير للامان النووي. والخلاصة ان لا مجال للتشاؤم.