في ثلج ألمانيا تدفق ينبوع حار من أشعار صلاح جاهين. كنت وحفيده أحمد أمين فؤاد حداد, المنتج المشترك لعملاقين, نسير تحت قبة الثلج الرمادي محفوفين بأشباح الأشجار العارية. متدثرين بكل ما نملك من أسلحة الدفء, نغطي اليدين والقدمين بما تيسر من صوف, ونشد الطاقية الشتوية علي الأذنين فينفذ من بين خيوطها الهواء المثلج ويستقر في الطبلة السماعة, أما الأنف فإنه المخلوق الوحيد الذي لا حيلة لنا في الدفاع عنه, فتعاقبه السماء الثلجية علي فضوله, وعلي أنه يدس نفسه فيما لا يعنيه فينال مالا يرضيه. في الطريق من الفندق للأمسية الشعرية الغنائية والعكس, ننتقل من دفء استقبال الجماهير العربية العطشي, مصريين وفلسطينيين وعراقيين وآخرين, إلي برد استقبال الشتاء الألماني, وبالعكس. لقد تدفقت الينابيع الحارة من قلوب المستمعين فاندلعت حرارة التصفيق في الأيدي لتدفئها خيرا من ألف قفاز. وبعد الأمسية سعدت بحماس العرب غير المصريين لشاعرها, خاصة حين قالت لي عراقية إنها قادت سيارتها في هذا البرد من مدينة تبعد مسيرة أربع ساعات لمجرد أنها علمت بوجود صلاح جاهين ضيفا علي برلين. وفي السفارة المصرية قدمت وأحمد أمسية أخري ظننت أن استقبال الشعر فيها سيكون متحفظا مهذبا بحكم أن عددا كبيرا من المدعوين فيها من الدبلوماسيين المصريين والعرب, ومما عزز ظني هذا أني كنت قد حضرت في باريس أمسية بوزارة الخارجية الفرنسية. وكان ضيفها الأساسي ويا للعجب محمود درويش. فإذا بالمستمعين يصفقون لشعره بأطراف أصابعهم في وقار بارد. لذلك كانت دهشتي, ومن ذلك جاء فرحي, بالاستقبال الحار لأشعار صلاح جاهين من كل من حضروا الأمسية, والتصفيق الطويل الذي أثلج صدري, أقصد أعوذ بالله أدفأ صدري, وجعل لتلك الزيارة الثلجية معني ومبررا لعبور البر والبحر في الجو والاصطلاء بنار الثلج ذهابا وإيابا من مكان لمكان, وتحمل الخدمة الإلزامية في المحال الكبيرة للتسوق الذي لا يحبه الرجال. ومما زاد القلب دفئا علي دفء حسن استضافة السفارة المصرية لنا من قمتها المتمثلة في السفير حتي سائق السيارة التي سخرتها السفارة لنا, فشكرا لسيادة السفير رمزي عز الدين ولمستشارنا الثقافي في برلين د. سيد تاج الدين وللأستاذ أحمد الذي راح وجاء بنا بين مكعبات الثلج في صبر عجيب. ولن أنسي الوليمة التي أقامها لنا د. سيد في أحد مطاعم المدينة, والطعام اللذيذ الذي صممت أن أفنيه فأفناني. أما الصديقة رينيه غماشي أبو العلا, فلسطينية المولد مصرية الهوي, التي عرفت صلاح جاهين وأحبته إنسانا كما عرفته وأحبته شاعرا, فقد كانت الدينامو المحرك لهذه الاحتفالية, وصاحبة فكرتها. وهي من سنين طويلة تمارس دور الأم الروحية للجالية العربية غير المتماسكة للأسف, فتقيم الانشطة الثقافية والقومية التي تجمعهم عبر الجمعية التي أسستها وترأسها: الدار لرعاية الأسرة العربية. لقد كانت برلين ثلجا يحيطه الدفء من كل جانب, وقد افتقدت أنا أشجارها الخضراء زاهية الخضرة التي أحاطتني أيضا في زيارتي السابقة لبرلين في ربيع1998 لكنا أحضرنا في حقائبنا أنا وأحمد ربيعا دائم الخضرة, اقتطف ثماره الشهية أهل برلين العرب, وسدوا جوعهم لشمس بلادهم, ولا أخجل ولا استحي أن أمدح والدي وأشبهه بأحلي الصفات, فهو ليس والدي وحدي, ولست أنا الوحيد الذي أفخر به. ومن المفارقات أني وأحمد قدمنا في نهاية الأمسية الأولي ملحمة علي اسم مصر التي تنتهي بالمقطع الآتي عن محمد فريد: وف أرضه عريانة فيها كل شيء بردان رقد فريد وحده بالحمي وبالهذيان وقام وقف ع السرير في تلج ألمانيا ينده: يامصر اسمعي اللي مفارق الدنيا ........ فلله الحمد أننا لم نفارق الدنيا في برد لم أعرف له مثيلا من قبل, والشكر أيضا للرحمة التي يتمتع بها جو برلين تحت قناعه الثلجي, إذ إنه انتظر وصبر حتي ركبنا الطائرة ليبدأ حفلة البرد الحقيقية. فلقد ودعنا البرد عند باب المطار ثم تفرغ لملحمة انهمار الثلج الذي غطي كل شيء. وكنت أتابع تطوراته عبر الهاتف, فعرفت في مكالمتي للسيدة رينيه أن ارتفاعه بلغ عشرة سنتيمترات, وبعدها بدقيقتين اتصلت بالدكتور سيد المستشار الثقافي فأبلغني أنه ارتفع إلي نصف متر, وبعدها بساعتين اتصل بي المخرج المصري هاني غانم المقيم هناك فعرفت منه أن الثلج سد شرفته وأن ارتفاعه وصل الي متر, فإذا كان برد برلين شرسا فإنه علي الأقل مهذب رحيم تفهم ظروفنا أنا وأحمد وأننا جنوبيان غير متعودين علي هذا العنفوان, فشكرا له هو أيضا.