الهجرة إلي يثرب ليست فرارا من مكة التي ضيق أهلها علي المسلمين وضربوا عليهم الحصار قد يصدق ذلك علي الهجرة إلي الحبشة التي وجد فيها الضغفاء من المسلمين الأمن والأمان لدي حاكمها( النجاشي).. الملك العادل, إنما كانت هجرة أقامت دولة وبنت حضارة انتشلت العالم كله من براثن الكفر والطغيان والضلال والاستعباد, حيث كان العالم كله يموج وسط أعاصير الظلام والفساد في العقيدة والسلوك, فكانت الهجرة بارقة أمل للإنسانية المعذبة وطلائع النور الذي أشرق علي البشرية فأضاءها بأنوار الإسلام. وصل رسول الله.. صلي الله عليه وسلم.. إلي المدينة فأضاء منها كل شيء, فكان أول عمل يقوم به هو بناء المسجد وصلي بالمسلمين أول جمعة في الإسلام, وفي هذا دلالة علي أن الدولة الإسلامية بنيت علي الصلة بالله.. حيث كان المسجد مصدر الإشعاع الحضاري للدولة الإسلامية الناشئة, فأصبح كل شيء في حياة المسلمين نابعا من الأخلاق والقيم التي تعلموها من المسجد..( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة). فكان المسجد مكانا للعبادة والتعليم والتفقه في الدين وشئون الدنيا, قامت هذه الدولة علي مبدأ الإخاء بين المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وبين الأنصار الذين يمتلكون الأرض والزرع والضرع, فكانت هذه الأخوة أعظم مواساة للمهاجرين وأكرم إيثار من الأنصار, وبذلك أقام الرسول.. صلي الله عليه وسلم.. الدولة الإسلامية الناشئة علي ركيزة التكافل الاجتماعي الذي ربط بين المسلمين من أهل مكة وبين مسلمي المدينة بعري وثيقة حتي يتفرغ لإتمام بناء هذه الدولة, ثم وجد صلي الله عليه وسلم.. أن في المدينة قوة لا يستهان بها اقتصاديا وسياسيا فوادع اليهود وحالفهم وأفرغ ذلك في وثيقة تضمنت: اتفاق اليهود مع المسلمين ما داموا محاربين. وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصيحة والبر دون الإثم وأن النصر للمظلوم. حرمة( يثرب). لا تجار قريش ولا من نصرها. يقوم اليهود بنصرة المسلمين ضد أي اعتداء علي المدينة. في حالة حدوث خلاف أو شجار بين الطرفين, يخشي فساده فإن مرده إلي الله ورسوله. من خرج من المدينة ومن قعد فهو آمن إلا من ظلم. هذه مقتطفات من وثيقة الموادعة, وإن دلت علي شيء فإنما تدل علي حكمة النبي.. صلي الله عليه وسلم.. وأنه رسول وسياسي محنك وقائد دولة وزعيم أمة, وقد استطاع.. صلي الله عليه وسلم.. أن يؤمن الدولة الإسلامية من الأخطار الداخلية المتمثلة في يهود المدينة, لكن اليهود قد غدروا وعادوا إلي طبائعهم الخسيسة من الدس والوقيعة والخداع, وهموا بقتل النبي علي الرغم من أن رسول الله.. صلي الله عليه وسلم.. التزم بنصوص هذه المعاهدة ويقول أحمد شوقي: وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء بهذه الهجرة المباركة أصبحت( يثرب) عاصمة الوحي ومنارة الإيمان.. يقول صلي الله عليه وسلم: إن الإيمان ليأرز إلي المدينة كما تأرز الحية إلي جحرها. ولئن كان العهد المكي تأسيسا للعقيدة في قلوب المؤمنين فإن الحقبة المدنية كانت تشييدا للدولة الإسلامية, فنزل الوحي علي محمد.. صلي الله عليه وسلم. بالتشريعات التي تنظم أمور المجتمع اقتصاديا وسياسيا وعسكريا, ومن هذه الدولة التي أسسها محمد.. صلي الله عليه وسلم.. علي قواعد الوحي المنزل من عند الله خرج الجنود الذين رباهم محمد.. صلي الله عليه وسلم في دار الهجرة المباركة لينشروا في ربوع الأرض النور والهدي الذي جاء به محمد.. صلي الله عليه وسلم.. فو الله ما سعدت أرض ببشر هاجر إليها كما سعدت أرض المدينة بأشرف الخلق محمد.. صلي الله عليه وسلم.. وصحبه. إن الهجرة ليست حدثا عابرا من أحداث التاريخ, وإنما هجرة شيدت دوله وأقامت حضارة ربانية أعلت من شأن الإنسان وأعادت له كرامته وعزته التي أضاعتها الفلسفات المادية التي كانت تسود العالم حينئذ شرقه وغربه شماله وجنوبه ولولا هذه الهجرة المباركة لما كانت الحضارة الإسلامية. إن هجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم كانت أعظم هجرة في تاريخ البشرية كانت شريفة المقصد نبيلة الهدف لولا هذه الهجرة لما انتشر نور الإسلام وعم المشارق والمغارب. وإذا نظرنا إلي تاريخ البشرية نجد أن هناك هجرات كثيرة أمة تغزو أمة أخري فتبيد شعبها طمعا في أرضها وثرواتها. أما هجرة محمد صلي الله عليه وسلم أنقذت أمة من التناحر والتباغض وحولتها إلي أمة رائدة( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم). ولا توجد أمة علي وجه البسيطة قامت علي وحي السماء كتلك الأمة التي شيد أركانها محمد صلي الله عليه وسلم علي دعائم من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فانطلقت أمة الهجرة لتنشر أنوار الإسلام في العالم كله رحمة وعدالة ومساواة. ولا عجب أن ألهم الله الخليفة عمر بن الخطاب أن جعل الهجرة تاريخا للأمة الإسلامية.