يبدو أن عالمنا يدخل مرحلة جديدة تماما يمكن أن نطلق عليها عالم تتقلص فيه مساحة الأسرار سواء علي مستوي الدولة التي كانت دائما تمتلك وتسيطر علي معلوماتها وما تعتبره من قبيل الأسرار الماسة بالأمن القومي, والذي كانت تعتبره مفهوما شاملا ويتمدد ويسري علي كل مظاهر حياة الدولة, أو علي مستوي الأفراد ولاسيما في الدول الغربية المتقدمة التي تخدم وتحمي الحق في الخصوصية والحريات العامة والشخصية اللصيقة بالفرد. هذا التدفق المتلاحق من المعلومات والأخبار والوثائق التي يطلق عليها التعبير الأثير لدي الدولة الحديثة الدولة/ الأمة سري جدا, يبدو أنها لم تعد كذلك, وهو ما يثير عديد القضايا القانونية والسياسية والتقنية إزاء قدرة أجهزة الأمن والاستخبارات والمعلومات علي حماية أسرارها الدفينة التي لا يتداول بعضها إلا بين يدي أعداد قلة لا تتعدي اليدين أو اليد الواحدة أو يزيد أو يقل قليلا في الإدارات السياسية الحاكمة في الولاياتالمتحدةالأمريكية, أو بريطانيا, أو ألمانيا, أو فرنسا.. إلخ! ما الذي حدث في عالم الأسرار التي تتساقط وتكشف عن المساحة المظلمة أو المستورة علي أقل القليل في العلاقات البينية داخل أجهزة الدولة وسلطاتها والطبقة السياسيةب الحاكمة فيها, أو في نطاق علاقاتها بمواطنيها وإزاء حقوقهم في الأمن الشخصي والخصوصية التي تشمل حياتهم وأسرارهم؟! من ناحية أخري العلاقات بين الدولة وغيرها من الدول في المجتمع والنظام الدولي المعولم التي أصبحت الآن مكشوفة في بعض جوانبها السرية أو ما كان يطلق عليها هذا الوصف في مراحل تاريخية سابقة, ولا يكشف عنها إلا بعد مرور فترات تاريخية لكي تظهر في الوثائق والرسائل والتفاهمات المتبادلة بين زعماء الدول وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية! ما الذي حدث في حياة عالم الدول والساسة والاستخبارات والأمن؟ ما الذي سيعكسه هذا الانكشاف للمستور والمخفي في الحياة الدولية المعولمة؟ هل ستتأثر الحياة الفردية بهذا التغير الذي ينذر بتحولات عاصفة في تنظيم الحياة والعلاقات بين الأفراد بعضهم بعضا, وبين الدول, وفي إعادة تشكيل وهندسة العلاقات الدولية والعولمية وعالم الاقتصاد, والاكتشافات التقنية وأسرارها الفنية, وهل يشمل ذلك عالم الأسلحة بما فيها الأكثر تدميرا وفتكا بالبشر علي كوكبنا؟ ثمة تغيرات وتحولات وتشكيلات جديدة للحياة الإنسانية, ترافقت وتفاعلت مع التطورات والاكتشافات التقنية ووتائرها السريعة منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي وأثرها علي ما ألفته الإنسانية من أساليب وعادات ذهنية وسلوكية حول الحياة والموت أو الوجود والعدم بالمعني الفلسفي السارتري وغيره-, أو الحياة في بعدها الأخلاقي والاجتماعي, ومن ثم أشكال تنظيم الوجود والحضور في المجتمع وعلاقات الأفراد بعضهم بعضا, وإزاء الدولة. لا شك أن الحياة الإنسانية ظلت تتفاعل تاريخيا ولا تزال علي إيقاعات الجدل بين التقنيات واكتشافاتها وبين الإنسان, ولكن كلما زاد حجم تدفق المعلومات مع تسارع وتائر الاكتشافات تطورت أساليب الحياة ونظم الحكم وأساليب السيطرة والقمع ونفوذ الأمن علي نحو متواز ومتساوق مع كل تطور في منظومة تقنية ما, ومن ثم تنعكس فورا علي منظومات وأساليب وآليات الأمن والقمع. من هنا كانت سياسات الأمن الداخلي, والأمن القومي والمنظومات العسكرية وتقنياتها هي أول المستفيدين من التطور التقني في كافة المجالات. نستطيع أن نقول إن بعض التطور في التقنيات العسكرية أثر علي الجيوش وتنظيمها وخططها وأساليب تفكير قادتها وعلي صياغة سياسات الدفاع للدول الأعظم في عالمنا من الحربين العالميتين الأولي والثانية إلي الحرب الباردة إلي نهاية القطبية الثنائية في النظام الدولي وصولا إلي انفراد الإمبراطورية الأمريكية العولمية بقمة النظام الدولي المعولم. ساهمت ثورة الاتصالات والمعلومات وعالم الشبكات والتزاوج بين المرئي والمعلوماتي في إحداث تحولات هادئة وعميقة وسريعة وهادرة في تعزيز الحرية الإنسانية وفي طرح عديد الأسئلة الوجودية, والفلسفية والسياسية.. إلخ, وفي منح الفرد والإنسان عموما عديد المكنات التي تعزز حقه في المعرفة والتعبير عن آرائه في كافة الأمور الكونية والدينية والسياسية والجنسية والأخلاقية والاجتماعية, في كل المجالات. لم تعد القيود والروادع المفروضة علي حق الإنسان في إبداء رأيه صالحة لإثارة أي دهشة حقيقية إلا في رؤوس وممارسات العقل النعامي, الذي أدمن تقليدا ذهنيا يعتمد علي اللامبالاة ورفض رؤية المتغيرات التي تحدث وتمس جزئيات الحياة اليومية! إذا حاولنا أن نتلمس انعكاسات ثورة المعلومات والاتصالات والشبكات وآثارها علي الأفراد يمكننا أن نرصد تمثيلا لا حصرا ما يلي: 1 توسيع مطرد لإمكانيات الفرد في الحصول علي المعلومات والأخبار والقدرة علي توسيع شبكات اتصالاته بالآخرين, وبناء علاقات تتجاوز الأطر التقليدية للأسرة والعائلة وزمر الرفاق, ومد الآفاق الاتصالية والمعلوماتية إلي آماد كونية. لا شك أن ذلك يعني اتساع مدي حرية الفرد في المعرفة والتعبير وليغدو مصدرا للأخبار بقطع النظر عن مكانته في السياسة أو المجتمع. 2 استخدام التقنيات الاتصالية والمعلوماتية والإعلامية الجديدة في رصد عديد الانتهاكات لحقوق الإنسان, كالضرب والجرح والتعذيب والقتل خارج القانون, والسب والقذف والسرقات والاختلاسات للمال العام وغيرها من الجرائم التي قد تقوم بها أجهزة الأمن أو الاستخبارات علي اختلافها, أو ترتكب من بعض الجماعات أو العصابات أو المافيات أو المجرمين... إلخ. 3 الإعلام والأخبار عن المذابح أو الاعتداءات علي الأقليات الدينية أو العرقية أو القومية, أو عمليات التطهير العرقي أثناء الحروب الأهلية. 4 قيام الافراد باستخدام الواقع الافتراضي للتعبير عن الرأي في سياسات القمع الداخلي والسياسي والبوليسي وكشفها وفضحها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي, والأخطر تطورها إلي تنظيم بعض الجماعات الاحتجاجية الشابة, والانتقال بها من الواقع الافتراضي إلي الواقع الفعلي. لا شك أن هذا الجدل بين الافتراضي والفعلي بات ينتج أثارا مختلفة بين الأجيال الجديدة وفي أساليب تفكيرها وحركتها وتنظيمها وابتكاراتها في العلاقة الصراعية مع أجهزة القمع وآلياته. ويبدو أن التحدي الجديد لسياسة الأمن يتمثل في كيفية حل التناقض بين أنماط تفكير سلطوية وقمعية قديمة وتقليدية, وعالم يصوغه ويشكله شباب, بل ويمكن تصور دور للصبية الصغار في ابتكار أساليب وأفكار, بل وانتهاك أسرار للدول وأجهزتها ومصارفها, وهو ما حدث فعلا, ومن ثم قد ترتكب جرائم خطيرة كنتاج لعجز أو عدم مواكبة ذهنيات أمنية وبوليسية واستخباراتية تنتمي إلي تدريب وتكوين فارق عصره, أو تجاوزته تقنيات المعلومات والاتصالات والأحري العقل المعلوماتي وثقافة الوسائط المتعددة. 5 استخدام الأفراد لتقنيات التصوير والبث والإعلام المتعددة من الهاتف المحمول وغيره في تنظيم التظاهرات والتعبير السياسي, وفي بث الأخبار والمعلومات والوثائق والصور والأفلام إلي كافة أرجاء الكوكب, والأهم في تزوير الانتخابات, أو عنف أجهزة الأمن أو بعض الأفراد.. إلخ, علي نحو ما شاهدنا ذلك كثيرا. 6 تثير مكنات الحرية واتساعها وتمددها في التعبير إلي استخدامات باتت تمس الحق في الخصوصية, وغيرها من أساسيات التنظيم الدستوري المعاصر للحريات الشخصية والعامة. في هذا الإطار يمكننا أن نرصد بث بعض الوقائع الحميمية المصورة بعلم أصحابها, أو بدونه علي شبكة الإنترنت, أو عبر الهاتف المحمول, أو من خلال الأقراص المدمجة بما يمس الخصوصية ويشكل تشهيرا بأشخاصه. ويمتد هذا المساس والتشهير بالأشخاص من خلال الإعلام الفضائحي عن بعض الفتيات أو الفتيان أو الأشخاص سواء أكان ذلك صحيحا أو كاذبا! ما الذي يعنيه هذا الاتجاه الذي يتطور بوتائر سريعة ويمس الحق في الخصوصية, والأمن الشخصي؟ يشير هذا التوجه في استخدام التقنيات في المعلومات والاتصالات المتعددة إلي عجز الأطر القانونية والرقابية والقمعية الوضعية القائمة عن حماية الأفراد وحقوقهم علي الرغم من تطور أجهزة المتابعة البوليسية والإدارات الجديدة في متابعة الجرائم الجنسية وغيرها علي الشبكة العنكبوتية. من ناحية أخري تكشف عن مدي تقلص مساحة الحق في الخصوصية, وأن حياة الفرد تبدو عارية سواء بإرادته أو بغيرها, ومن ثم سيؤثر هذا التوجه التقني واستخداماته علي طبيعة الحياة في عالم تتقلص فيه الأسرار الشخصية والحميمية. للحديث بقية