الشواهد تدل علي ان أفكار حماية الأمن القومي, والمصالح الوطنية للدولة, تتخذ لها منحي متغيرا, بشكل يجعل الكثير من الأفكار المألوفة, والمستقرة, والمسلم بها, من نظريات وسياسات, وكأنها تراث عصر مضي, ينبغي ابتداع الأنفع والأصلح من الأفكار, أو ان النظريات السياسية التي عبرت عن زمانها, قد صدئت, وهي التي كانت فيما سبق محفزا ومرجعا للسياسات وصناعة القرار, فهذا عصر اطلاق الخيال. ونحن في مصر, وفي عالمنا العربي عامة, جزء من العالم, الذي تضيق فيه المسافات بفعل ثورة المعلومات, ويزداد التداخل بين أجزاء هذا العالم, بايقاع متسارع, ينطبق هذا علي كل شيء بما في ذلك المشهد الميداني عندنا الخاص بانفلات حركة الاسواق, وفوضي الاسعار والأجور. وسوف أبدأ بتغيير سياسي لافت للنظر في بريطانيا وان لم يحظ بما يستحقه من اهتمام مرورا بظواهر مشابهة في جوهرها في مناطق اقليمية أخري. في بريطانيا حدث ما حدث في المؤتمر السنوي لحزب المحافظين الحاكم في اكتوبر2010, وهو الحزب العريق المعروف تاريخيا بكونه الحارس علي الفكر المحافظ, بحيث أفسح المؤتمر مساهمة اكثر لمناقشة المفاهيم الاقتصادية المعمول بها, وخضوع النظرة لاقتصادات السوق, للخلفيات الايديولوجية, واستحكام طوق النظريات علي التفكير وصناعة القرار. وظهر تغير صريح في اتجاه الحزب نحو رؤية سياسية واقتصادية معتدلة, وابتعاد عما وصفه المتحدثون في المؤتمر, بمرحلة الانغلاق الحزبي, والسير علي نهج مختلف, والتنبيه الي مسئولية الدولة في التدخل لضبط العلاقة بين قوي السوق, وتوفير العدالة الاجتماعية. في المؤتمر طرح ديفيد كاميرون رئيس الوزراء فهمه لمعني العدالة بقوله: ان المواطنة هي علاقة تبادلية. ولوحظ ان تعبير االمحافظينب كان يتواري خلف كلمات المتحدثين الذين قدموا أنفسهم, دعاة للوحدة الوطنية, ووصف حزبهم بأنه اليوم حزب معتدل, تجاوز مرحلة الانغلاق الحزبي, حسب تعبير جون اسبورن وزير الخزانة. وبعد مرور اسبوع علي انتهاء المؤتمر كتب اسبورن مقالا شرح فيه أبعاد هذا التطور فقال: ان العالم قد تغير خلال السنوات الأربع الماضية بصورة درامية, بحيث أصبح تجديد المفاهيم عنصرا حاسما في تحقيق النجاح الاقتصادي, وان التجديد في الأفكار هو الذي يقود حركة العالم الآن. حتي ان الدول المتقدمة اقتصاديا تحتاج إلي ان تقلق علي نفسها, اذا لم تغير المفاهيم والنظريات التي اعتادتها, فالذين يجددون يحققون النمو بأسرع من الذين يفشلون في التجديد. الكاتب البريطاني دانييل فينلكتسين يفسر ما جري بقوله: الفكر المحافظ قائم علي متابعة الطبيعة البشرية, والطريقة التي تعمل بها ومادامت الطبيعة البشرية تتغير, فلابد ان يتغير الفكر المحافظ, وإلا فعن أي شيء تعبر النظريات؟!. كان محور التغيير يدور حول جانبين: دور الدولة في ضبط حركة السوق, وضمان العدالة في توزيع عائد التنمية. وهذا التطور كان قد شغل الكثيرين منهم مايكل بور تيللو الوزير السابق في حكومة المحافظين, في خطاب القاه في مؤتمر حضره ساسة. وقادة أعمال, وصحفيون وقال: إن الديمقراطية قد لا تستطيع المحافظة علي بقائها أمام كارثة تنتج عن انعدام المساواة. وان المحافظين يتوقعون من حكومتهم تحمل المسئولية الاجتماعية تجاه الاغنياء والفقراء علي السواء, وإذا كان انطلاق العالم نحو عصر جديد من العدالة, يحفز بريطانيا في هذا الاتجاه, فإن ما يدفعها اليه كذلك, الأزمة المالية العالمية عام.8002 في نفس الوقت كان ويل هيوتن العضو البارز في حزب العمل, ورئيس التحرير السابق لصحيفة الأوبزرفر, قد اصدر كتابا بعنوان هم ونحنThemandus قال فيه إن جذور الأزمة المالية, كانت في تجاهل العدالة كمبدأ إرشادي لادارة الاقتصاد والسياسة الاجتماعية. أيضا البروفسور اندال بيير بفوم الاستاذ بجامعة اوكسفورد, والذي تستضيفه جامعات ومراكز سياسية في اوروبا, والولايات المتحدة, والصين, قد شخص ما سماه الدروس السبعة المهمة لتفادي فشل اي تجربة للتنمية, منها: التفاوت غير العادل في الدخول, والخضوع لقيود النظريات السياسية والاقتصادية الجامدة. نفس الرؤي والتصورات ظهرت في الخارج مختلفة في العالم, وعلي سبيل المثال فإن اتجاه يسار الوسط الذي ينتمي اليه لولا دي سيلفا رئيس البرازيل السابق, لم يمنعه من التحرر من أي قيود أيديولوجية, ليمزج بين مسئولياته كحاكم لدولة تعيش عصر المنافسة الاقتصادية العالمية, وبين مراعاة الاصلاحات الاجتماعية, بحيث استطاع خلال خمس سنوات من حكمه الذي دام ثماني سنوات خفض معدل الفقر بنسبة42%, والارتقاء ببلده ليكون خامس أكبر اقتصاد في العالم. وفي الصين, حدث التعايش بين نظام الحكم الشيوعي وبين الأداء الرأسمالي البحت, في مواقع الانتاج, التي قفزت بمعدل التنمية الي مستوي لم تصل اليه أي دولة في العالم. والنماذج كثيرة متنوعة والخلاصة ان الزمن تغير, والطبيعة البشرية تتفاعل بالضرورة مع التحولات الهائلة في العالم, بعد ان غادر العالم زمن الثورة الصناعية, الي عصر ثورة المعلومات, بايقاعها المتسارع وبصورة لم يتصورها أحد وتغيرت معه الحالة المزاجية للفرد والمجتمع, مما فرض التحرر من انغلاق النظريات والأفكار التي لم تعد تناسب العصر, وتحتم اطلاق الخيال لابتداع أفكار تناسب العصر, وهنا عاد للدولة دورها, في اي نظام مهما كانت توجهاته ليس الدور الموجه فهذا فكر قد ولي زمانه وثبت فشله ولكنه دور الرقابة المسئولة, لضبط أي خلل في العلاقات, أو حتي الفوضي في حركة السوق.