شاهدت بالأمس حلقة حوار ثقافي بين وحيد حامد الذي عاد إلينا بالسلامة بعد وعكة مرضية ومقدمة البرامج النابهة مني الشاذلي, ولفتني في الحوار بعض ما شخص به وحيد حامد أسباب غياب الحوار الاجتماعي والثقافي وجذبت انتباهي إشارة وحيد حامد إلي ما أسماه اوجود حالة تربصب في المجتمع, وأوضح ذلك بقوله إن الفئات الاجتماعية والسياسية تعيش حالة من التربص يصعب أن نستثني منها أحدا, فالحكومة تتربص بالمعارضة, والمعارضة تتربص بالحكومة, بل يتربص بعضها ببعض, وذلك علي نحو يغذي ظاهرة العنف اللغوي التي تقلب أي حوار مجتمعي, مهما كانت صفته, إلي حال من التنابذ أو تبادل الاتهامات والحق أني لا أري فارقا بين حال التربص والترصد, فكلتا الكلمتين تتبادلان الدلالة في الميل إلي الحكم المسبق علي المختلف الذي يغدو خصما لابد من القضاء عليه بمجرد إعلانه الاختلاف عنك أو الاختلاف معك وما أكثر الأمثلة علي ذلك بين المثقفين والسياسيين الذين يدعون بألسنتهم إلي حق الاختلاف وضرورة الاعتراف به بوصفه ظاهرة طبيعية. ولكن ما إن يبدر من المختلف الآخر أو المعارض ما يدخل في إطار هذا الحق الطبيعي حتي يظهر العنف اللغوي بكل تدرجاته, ولا يغدو للمختلف بفتح اللام معه إلا تدمير المختلف بكسر اللام معنويا, وإزاحته فكريا, والقضاء علي حضوره المادي, وتأمل حولك تجد هذا العيب منتشرا في كل مجال, وعلي كل مستوي ولذلك غابت أشكال الحوار المجتمعي والثقافي والسياسي علي السواء, وحلت استجابة العنف إلي الاختلاف فكريا أو ثقافيا أو اجتماعيا, وشاعت هذه الاستجابة حتي بين أبسط البائعين في الطرقات, أعني أولئك الذين استبدلوا بعبارة ايفتح اللهب الموروثة عبارات أكثر عنفا, كأنها صورة شعبية لما يفعله المثقفون علي اختلاف أنواعهم من استبدال المجادلة بالتي أحسن وتحويلها إلي المجادلة بالتي هي أقمع. ولا تنفصل ظاهرة التربص عن سوء الظن الذي يتوقع الأذي, دائما, من المختلف, فيستعد لمواجهة الاختلاف سلفا, متنمرا له, مشهرا أسلحته كأنه داخل إلي حرب وليس إلي جدال فكري ودع عنك ما ورثناه عن تراثنا السمح من أن اختلاف الأئمة رحمة, أو أن ثقافة الاختلاف هي ثقافة التنوع الخلاق, فقد تهاوت هذه الثقافة تحت مطارق العنف الذي تغذي بطبائع الاستبداد, أو أظهرته طبائع الاستبداد التي تنتقل عادة من الأقوي إلي الأضعف, ويتبادلها الأعلي والأدني في درجات السلم الاجتماعي والسياسي والثقافي, في أزمنة الاضطراب والأزمات الطاحنة بكل أسبابها وعواملها وقل لي, بالله عليك, كيف تنتظر من مواطن بائس, محروم من أبسط حقوقه الإنسانية, أن يجادلك بالتي هي أحسن, أو يتروي في الصراخ مما يعانيه, خصوصا أنه يضعك, حقا أو باطلا, في موضع من يتسبب في معاناته أليست معاناة هذا المواطن البسيط بكل أنواعها هي السبب في عنف سلوكه الذي يبدأ من تحطيم أو تمزيق كراسي القطارات والأتوبيسات, أو خوض العراك لأهون سبب, وبما ينقلب بالعنف اللغوي إلي أبشع الدرجات في أحيان كثيرة نري أخبارها في أجهزة الأعلام ويمكن أن نضيف إلي أسباب انعدام الحوار المجتمعي, ومن ثم تهديد السلام الاجتماعي, حال العناد والإصرار التي تصيب الأطراف المتعارضة, وذلك إلي الدرجة التي ترفض التنازل أو الوصول إلي حلول وسطي, ما ظل كل طرف متشبثا بموقفه كأنه الحقيقة المطلقة التي يحتكرها, فلا يكون من حل سوي العنف الذي يمكن أن يمتد شرره, ومعظم النار من مستصغر الشرر وهذا ما نراه في حالات الإضرابات التي أخذت تتزايد علي نحو صاعد, وذلك في متوالية معروفة فئة اجتماعية تستشعر الظلم الفادح, وتطالب بالإنصاف, ولكن ما من استجابة سوي رد صلف بأنهم ليسوا أصحاب حق, فتندلع شرارة العنف التي قد تتضاعف, أو قد تجد من العقلاء من يخمدها, أو يسعي إلي أن يخمدها, وقد ينجح وقد يفشل, فالأمر في هذه الأيام متروك للمصادفة. ويمكن أن أضع هذه الظاهرة الاجتماعية في موازاة ظاهرة ثقافية سياسية, أطلق عليها اسم االتنميطب وهو أمر تتبادله أطراف من الحكومة وأطراف من المعارضة, يضع كل منها الآخر في موضع االعدوب الذي هو علي خطأ دائما, فلا يقر المعارض أبدا بشيء طيب أو إيجابي تفعله الحكومة, ولا يقبل المتشددون الحكوميون الملكيون أكثر من الملك أي رأي أو فعل أو اقتراح للإصلاح يأتي من المعارضة والحق أنه لا ينكر منصف أفعال الحكومة الإيجابية في حالات ومجالات عديدة, ولكن هل تجد لمثل هذه الأفعال صدي طيبا عند المعارضة؟ الإجابة بالنفي الذي هو تسجيل للواقع, فكل ما تفعله الحكومة وممثلوها مرفوض, والعكس صحيح بالقدر نفسه عند ممثلي الحكومة الذين يردون علي خطيئة المعارضة بما يساويها في القوة, ويخالفها في الاتجاه ولا أجد تبريرا عقليا يقنعني, إلي الآن, بغياب الإنصاف في رد الفضل إلي فاعليه إن التصلب العقلي الذي يقترن بالتنميط يؤدي إلي أسوأ الأثر في هذا الاتجاه, وتبقي نار العداء بين الإخوة الأعداء محرقة للطرفين في كل اتجاه, وفي كل مجال خذ ما يحدث, الآن, علي سبيل المثال ننادي ليل نهار بأننا دولة مدنية حديثة ونسعي إلي تدعيم حداثتها لكي تقاوم أعدي أعدائنا, وهو احتمال قيام دولة دينية يمكن أن تنتهي إلي ما انتهت إليه أفغانستان طالبان أو القاعدة بلا فارق, فلماذا لا يحدث تقارب في هذا الهدف علي الأقل مع حزب الحكومة وأحزاب المعارضة التي تتبني مشروع الدولة المدنية, خصوصا أن مشروع الدولة الدينية ارتبط بأفكار شاعت بين قطاعات الكثيرين جدا من أبناء المجتمع الذين يمثلون القاعدة الشعبية بواسطة ثقافة تخلف لا تزال مسيطرة وسائدة ولابد من التحالف المدني لمواجهة هذا الخطر الكارثي الذي أصاب الوعي المجتمعي, والذي لابد من التكاتف بين كل القوي المدنية لمواجهته ويتصل بذلك أن بعض دعاة الإسلام ليسوا صنفا واحدا, وإنما تيارات مختلفة, تجمع بين من لا يعارضون الدولة المدنية, بل يدعون إليها, فلماذا نكف عن التنميط المطلق, ونمايز بين الأطراف, وذلك بالمنطق نفسه الذي يدفعنا إلي الكف عن هذا الادعاء الساذج والغبي أن كل من يعمل في الدولة عميل لحكومة فاسدة وما أكثر ما نجد من أعاجيب في هذا المجال, فأنت إذا عملت في الحكومة, وكان هدفك تحقيق صالح الوطن, فأنت خائن وعميل في لغة المعارض بكسر الراء الأصولي الماركسي, وأنت كافر وملعون ومطارد في المحاكم بثغرات قانونية عند الأصوليين المتأسلمين, يعني إذا كنت مثقفا حرا تعمل في الدولة, فأنت مدان مهما فعلت, وواقع ما بين سندان الأصولية المتأسلمة والمتمركسة وما أشبه, وسندان ممثلي التسلط في الدولة وذلك وضع مأساوي يدعو البعض, أحيانا, إلي الاكتفاء بالسباب في جرائد المعارضة التي لا تمايز, أحيانا, بين كلمة الحق وكلمات الباطل, ما ظلت تخادع الناس بدعاوي الديمقراطية المظلومة والدفاع عن مصالح الشعب المضطهد من الحكومة في كل الأحوال وعلي نحو مطلق, وهو موقف يعريه وجود معارضة شريفة مستغنية عن أموال الغرب والنفط, وتغتني بتقدير القراء والمشاهدين في جرائد المعارضة المحترمة, والتليفزيونات الخاصة التي لا تقل احتراما, فالأصل هو النزاهة في الموقف والكلمة والسلوك, لا المخادعة أو المتاجرة أو تكبير الصغار أو التربص الذي تحدث عنه وحيد حامد. ويكمل صورة التنميط الذي أتحدث عنه ما نراه حتي في الجرائد الحكومية, المبتلاة بكتاب يضعون من يتصورونهم خصوما في صورة نمطية ثابتة, فأنت محكوم عليك بالزيغ الأبدي لو دعيت إلي التنوير, أو كنت من سدنة التنوير, كما يقول واحد منهم, ولا سبيل إلي الحكم عليك إلا بأنك من أهل البدع والضلالة, ومهما قلت, وكتبت, فلا فائدة, فقد صدر الحكم الذي وصمك ووضعك في نمط ثابت معاد للإسلام وما أكثر الشباب الذين يخادعهم هذا التنميط فينخدعون به, ولا يلقون مقالاتي في هذه الجريدة إلا بالتهم التي سمعوها, بدل إعمال عقولهم فيما أكتب, فالمسارعة إلي تصديق الاتهام أصبحت شعيرة ثابتة, في ثقافة التخلف السائدة, تماما كما أن ضحالة المحصول الفكري للمتطرفين قاعدة مؤكدة. رحم الله الكاتب اليوناني العميق كازنتزاكس عندما وصف صراع طالبي التحرر لليونان بطوائفهم المتصارعة مع نفسها ما بين اليمين واليسار بصراع الإخوة الأعداء, وهذا وصف ينطبق علي الوضع الراهن للثقافة المصرية التي تمر بواحدة من أصعب الأزمات, فقد اختلط الحابل بالنابل, والصادق بالمدعي, والزائف بالأصيل, والمكفراتي بالمخوناتي, فلم يعد هناك حوار خلاق, سواء في الثقافة وبين المبدعين, أو بين الطوائف الاجتماعية والسياسية علي السواء فغربت الحوارات الخصبة, وغرق الإخوة الأعداء في قضايا صغيرة وأحقاد شخصية ومنافع زائلة, لكن لحسن الحظ, هناك دائما نور ينبثق من وسط العتمة, تضيئه أقلام شريفة كسبت احترام الجميع, وبأقلامها سوف ينفتح طريق الحوار مرة أخري, وتستعيد مصر عافيتها السياسية والاجتماعية والثقافية, بعد انتهاء زمن المقتولين القتلة الذي لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتي قتله ورحم الله صلاح عبد الصبور الذي مات بسبب الأصولية المتحجرة التي ترفض حق الاختلاف, في المدار المغلق للإخوة الأعداء.