ظل السودان الشقيق والعزيز علي قلب مصر وشعبها محجوبا عن المعرفة العميقة والوعي لدي النخب منذ وصول الإنقاذ إلي الحكم. مذاك ومسألة استبعاد الجنوب من تكوين الجغرافيا السياسية تراود الشيخ حسن الترابي. ثمة فكرة تسربت إلي وعي بعض قادة الطبقة السياسية السودانية أن الجنوب عبء علي الشمال, أما أن يدمج عنوة بالقوة الجهادية أو العسكرية, أو يترك لمصائره وينفصل. هذه الفكرة سادت في ظل حكم الإنقاذ الانقلابي الأول الترابي والبشير, وفي ظل حكم الإنقاذ الثاني علي أيدي أبناء الأول وقادة تنظيمه الفعلي في الدوائر التي شكلت مفاتيح التنظيم وإدارته المعلوماتية والرقابية, وظلوا حتي هذه اللحظة هم محاور الحكم الحقيقية, وذلك بعد إعادة توزيع مواقع بعضهم علي هيكل القوة الفعلي في ظل تداعيات ما بعد اتفاقية نيفاشا, وتحديدا تطويق دور السيد علي عثمان محمد طه لصالح آخرين ذوي صلة وأواصر بالرئيس والمؤسسة العسكرية, وأشكال القوة الشعبية التي أنشئت لأسباب تتصل بمحاولة إيجاد سواتر تؤدي إلي عسر أية عملية تغيير بالقوة علي مثال التقاليد السياسية السودانية منذ الاستقلال, أي ثنائية الحكم العسكري والحكم المدني المتتالية إلي حين وقوع انقلاب الإنقاذ الأول, ثم الثاني. خذ أيضا بعضا من التفكير اليومي المصري الرسمي الذي يظهر بين الحين والآخر من تصريحات هنا, أو هناك تبدو متأخرة جدا عن واقع الانفصال الذي تحقق فعلا علي أرض الواقع, بينما كل الدلائل والمؤشرات تشير إلي أن مختلف الأطراف تعمل من أجل الانفصال, وتكاد توجد فجوة مصداقية بين خطاب الوحدة الجاذبة من طرفي اتفاق نيفاشا, حيث أنهما كانا يحاولان التعمية علي النيات الحقيقية لأهدافهما السياسية من شراكة السلطة والثروة, ولكن البعض هنا وفي المنطقة العربية كان لا يريد أن يري الواقع في ذاته وفي حركته, وإنما يراه من خلال إدراكات مسبقة وملتبسة حول مفهوم السودان العربي الموحد. الواقع تاريخيا يشير إلي أن السودان مهمل في وعي غالب النخب العربية والمصرية السياسية والثقافية والأكاديمية إلا قليلا. ثمة مواقف عربية أدت إلي اختلاطات والتباسات حول مسألة الهوية السودانية. في ظل تهميش السودان والصور النمطية حوله تركت الصفوة السياسية السودانية في الحكم والمعارضة تمارس ألعابها التقليدية والمحفوظة, وتجاربها الانقلابية والديمقراطية ومع ذلك لا يوجد تراكم سياسي ولا خبرات تنعكس في سياساتها وسلوكها إلا فيما ندر, ومن ثم كانت ولا تزال علي هامش العالم العربي, وعلي هامش أفريقيا تلعب علي الهوامش وداخلها, وترفع شعارات إيديولوجية قومية حينا, وماركسية واشتراكية حينا آخر, بل وإسلامية/ عرقية/ عربية منذ الحضور السياسي لحسن الترابي, وبعض من رجال جماعة الإخوان المسلمين منذ عقد الستينيات من القرن الماضي, وتوافقهم وانفصالهم وتحولاتهم. أطروحات إيديولوجية وسياسات ومناورات نخبوية كرست الطائفية وروح الاستعلاء القبلي من أقلية في إطار قبائل الوسط النيلي الثلاث الكبري تحكم وتسيطر علي السلطة منذ الاستقلال بالحكم المدني, أو العسكري وهكذا... إلخ, وتستبعد الجنوب والغرب والشرق! ما الذي بقي من السودان بعد كل هذا!! التضاغط السياسي الحالي في السودان هو جزء من متتالية إعلامية وسياسية تحاول إخفاء الأهداف الحقيقية التي عمل من أجلها الأطراف المختلفة علي ساحة الحكم, وهي الانفصال, ونستطيع أن نحدد أهداف قادة دولة الجنوب والشمال من وراء الضجيج الحالي فيما يلي: أولا: الحركة الشعبية لتحرير السودان رمت الحركة لتحقيق عديد الأهداف بعد الاتفاق الإطاري الذي وقع في نيفاشا فيما يلي: 1 القائد التاريخي للحركة جون جرنج كان أكبر من الجنوب في رؤيته السياسية وخبراته التنظيمية والعسكرية, ومن ثم استهدف بناء سودان جديد موحد وديمقراطي يشارك الجميع في تأسيسه وبناؤه علي أساس المواطنة الكاملة ترعاها مؤسسات للمشاركة السياسية تستوعب جميع أطياف السودان المتعدد والغني بعافيته العرقية والدينية والمذهبية والثقافية من خلال ثقافة وقيم وآليات الديمقراطية التعددية وفي إطار تنموي يشمل تطوير التعليم وإصلاح مؤسسات جهاز الخدمة المدنية... إلخ. بعد وفاة جون جرنج في حادث طائرة غامض تحوم حوله عديد الشبهات, تراجع هذا التوجه, وثم تهميش غالب أنباء جون جرنج سياسيا حتي في إطار قبيلة الدينكا. 2 نائب الرئيس السوداني سيلفا كير ميراديت وصحبه ولاسيما في إطار الدينكا هم أقرب إلي تقسيم السودان, ومنذ اتفاق نيفاشا وبعد وفاة القائد التاريخي للحركة الشعبية, يتم التأسيس علي الأرض لدولة الجنوب من حيث الجيش والتدريب والتسليح, وبناء شبكة علاقات دبلوماسية للحركة موازية للدولة السودانية, ومعها مكاتب خاصة أخري لحزب المؤتمر الوطني الحاكم, وذلك بما يشير إلي هدف واضح ألا وهو تدريب بعض كوادر الحركة علي العمل الدبلوماسي وبناء علاقات مع أطراف فاعلة ذات صلة بالحالة السودانية في بعض مراكز صنع القرار الدولي ذات الصلة. 3 استخدام غالب أموال النفط في عمليات التسليح وذلك وفق بعض المراقبين الثقاة, وثمة أقاويل عن دور بارز لإسرائيل في هذا المجال, والواضح وفق آراء بعض رجال الاستخبارات والخبراء الإسرائيليين. أن بناء علاقات مع الجنوب هو جزء من سياسة إسرائيلية استخبارية وعسكرية تحت غطاء التنمية, وتقديم الخبرات ترمي إلي استخدامها مستقبلا إزاء مصر وشمال السودان, وفي إطار دول منابع النيل إزاء الدول الشاطئة للنهر. والمثير والغريب أن ذلك ما نبهنا إليه مع آخرين منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي, وحول تهديدات تمس الميزانية المائية المصرية ولا أحد يقرأ أو يسمع أو يتعلم! 4 أن دولة الجنوب تأسست, والإعلان سيتم عقب إعلان نتائج الاستفتاء علي تقرير المصير. ثانيا: حزب المؤتمر الوطني الحاكم كان بناء دولة السودان الإسلامية/ العربية هو الهدف الأساسي وفق الإيديولوجيا الإنقاذية الدينية العرقية لدي الشيخ حسن وصحبه وتلامذته, ولكن تراجع بعد الفشل الإيديولوجي لرؤيا الترابي حول العلاقة مع الجنوب وغير المسلمين في مبادرته وتحليلاته المختلفة, وكذلك بعد إخفاق الجهاد الإسلامي العربي لقبائل الوسط النيلي تحت رايات متعددة كالجيش ومجموعات/ ميليشيات عسكرية شعبية أخري. كانت محاولة أسلمة وعرقنة الصراع مع الحركة الشعبية إحدي أدوات التعبئة الدينية لشد عصب الوسط النيلي إزاء الجنوب والحركة الشعبية لتحرير السودان. أدي الإخفاق إلي تواضع هدف نظام الإنقاذ إلي ضرورة التركيز علي تطوير الأوضاع في الشمال/ الوسط أساسا, ومحاولة تضفير شرعية الحكم علي المزاوجة بين المصدر الديني, وشرعية الإنجاز وهو ما تم تحقيق بعض منه ولا يمكن إنكاره, رغما عن انتقادات تمس نزاهة وفساد بعض عناصر موالية للحكم. من هنا يبدو خيار الدولة الإسلامية العربية هو الهدف وليس شعار الوحدة الجاذبة الذي يعلم الجميع أنه شعار للمناورة, ولكي تبدو الحكومة والحزب وكأنهم بذلوا قصاري جهدهم للحفاظ علي السودان الموحد, ولكن ذلك إزاء العالم العربي وطبقاته السياسية والنخب المثقفة وترمي الحكومة من التضاغط الحالي إلي إبراز العقبات التي تعتري عملية الاستفتاء والحدود, والخلاف حول إقليم أبيي والنفط, وأوضاع الجنوبيين في الشمال, والشماليين في الجنوب, وتقسيم النفط وموارده... إلخ. وذلك لاستهداف ما يلي: 1 إبراز أن التقسيم جزء من عملية تدخل دولي كبري نظرية المؤامرة الشهيرة! بقيادة أمريكا وإسرائيل وبريطانيا, ودول أخري أوروبية وأفريقية أخري, ومنظمات دولية مسيحية وجماعات ضغط كجماعة الضغط الأفرو أمريكية وتحالف دارفور فيما يخص المسألة الدارفورية, وهو تحد أكبر في إطار سيناريوهات تفكيك الكيان والدولة السودانية. 2 أن التركيز السياسي والأمني والعسكري في دولة الشمال الإسلامية/ العربية تتيح للحزب والسلطة إمكانيات أعلي للسيطرة وإدارة جهاز الدولة في ظل ضعف القوي السياسية الأخري, ولعل انتخابات المجلس الوطني الأخيرة, وتشكيل الحكومة الحالية تشير إلي غلبة العناصر المتشددة إيديولوجيا والشابة, وبعضهم ينتمي إلي الدوائر التنظيمية والأمنية في الحزب, وذلك في دلالة علي الحاجة إلي المتشددين للإعداد لإعلان الانفصال, والتعبئة الإيديولوجية للحزب وقواعده. 3 إمكانية حسم الأوضاع في دارفور عسكريا إذا ما رفضت الفصائل المسلحة العروض الحكومية للحل.. أيا ما كانت أهداف طرفي نيفاشا, فإن الانفصال لن يكون حلا لكليهما, وإنما سيفتح الباب عن سعة لتفكيكات أخري سودانية وأفريقية وربما عربية, ومزيد من التدخل الدولي في المنطقة وإعادة صياغة خرائطها الجيو سياسية والجيو دينية والعرقية, والخطر ليس بعيدا عنا! المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح