في أوائل الستينيات حينما كنت طالبا بالجامعة, سافرت في الإجازة الصيفية إلي ألمانيا, وبعد أيام من وجودي في ميونخ وجدت كل ما تبقي معي من نقود هو عشرة ماركات فقط. وفكرت كثيرا ماذا أفعل, وهداني تفكيري إلي أن أسافر من ميونخ إلي شتوتجارت بطريقة الأوتوستوب لكي لا أدفع ثمن الرحلة, وتتلخص هذه الطريقة في أن تقف علي الطريق السريع وترفع إصبع الإبهام عاليا ناحية اليمين حتي تقف لك سيارة تكون مسافرة في الاتجاه الذي تريده. وفي الصباح الباكر فعلا قررت السفر وأخذت معي حقيبة الملابس, وطبعا كل ما أملك وهي الماركات العشرة, ووقفت, ورفعت إصبعي وبعد نحو نصف الساعة تقريبا وقفت سيارة مرسيدس كبيرة علي بعد30 مترا, وتراجعت إلي الخلف, وفتح لي صاحبها الباب, وأشار لي قائلا تفضل, وركبت معه, وفي الطريق سألني من أي بلد أنت؟ وماذا تعمل؟ وإلي أي مدينة أنت ذاهب؟.. فقلت له: أنا مصري وطالب في الجامعة وأريد الذهاب إلي شتوتجارت لكي أعمل في الإجازة الصيفية للحصول علي مبلغ من المال. وهنا قال لي: أنا طبيب وأعمل في ميونخ, ولكني من شتوتجارت, وعندي فيلا كبيرة وأعيش مع والدي وابنتي التي تبلغ من العمر تسعة عشر عاما, وهي من عمرك وتدرس في جامعة شتوتجارت, وتريد أن تتعلم اللغة الإنجليزية وبما أنك تعرفها, وهي تعرف اللغة الألمانية أقترح عليك أن تسافر معي إليهما وتظل معهما خلال فترة الإجازة وهي ثلاثة شهور لكي تتعلم منها الألمانية وتعلمها الإنجليزية. وكرر كثيرا أنني سأكون مستريحا جدا في الأكل والشرب والإقامة, وقال: يمكنك أن تقضي وقت الفراغ في ركوب الخيل وخلافه.. ما رأيك؟ هل ستسافر معي إليهما؟ قلت له: لا, إني ذاهب لأعمل, وهذه أول مرة أشتغل فيها في حياتي!. قال: وأين تنام في شتوتجارت؟ قلت له: في بيوت الشباب. فقال لي: هذا هو عنواني فإذا أردت أن تحضر سنكون سعداء جدا وفي انتظارك وكتب لي العنوان علي روشتة. وهذه الروشتة مازلت أحتفظ بها حتي الآن. وساعدني الرجل في حمل الحقيبة بكل تواضع حتي بيت الشباب, وأراد أن يدفع لي ثمن الإقامة, فقلت له: شكرا.. ودفعت الثمن من الماركات التي معي, وودعني الرجل وهو يتمني أن يراني مرة أخري. وفي الصباح وجدت عملا في مصنع أحذية, وكنت أحصل في الساعة علي( ماركين), وبعد قليل وجدت غرفة صغيرة عند سيدة عجوز كانت كريمة جدا, وتعد لي طعام الإفطار وتغسل الملابس وتأخذ في المقابل خمسين ماركا شهريا, وبعد ثلاثة شهور رجعت ومعي مبلغ معقول واحتفظت بكرامتي وعزة النفس التي لاتقدر بمال الدنيا. إنني أحكي هذه القصة الصغيرة, لكي يتعلم منها شباب اليوم الذي يسافر علي المراكب القديمة, وربما يموت أحيانا في الطريق لكي يعود بعد سنين من المهانة والاحتقار للنفس ويهدر كرامته وتضيع شخصيته من أجل حفنة نقود. وأتمني لو أن كل شاب جاهد وعمل في بلده فهذا أفضل له كثيرا, وسوف تتفتح له أبواب الأمل والنجاح. * تلقيت هذه الرسالة من الدكتور حلمي عباس من ألمانيا, وهو واحد من رجال مصر الناجحين في الخارج, وصيدلي معروف له إسهاماته البارزة في هذا المجال, ويعيش حاليا في ألمانيا, ولديه أسرة ناجحة ويلمس في هذه الرسالة القصيرة نقطة واحدة في مسيرته الطويلة, وهي نقطة البداية.. فكل شاب يمتلك الإرادة والعزيمة قادر علي أن يصل إلي هدفه, ويحقق أمنياته, وبالعرق والجهد يستطيع قهر المستحيل والتغلب علي كل ما يواجهه من عقبات. أيها الشباب: أمامكم نماذج مضيئة خذوا العبرة والدروس منها, ولا تركنوا إلي اليأس أو انتظار الواسطة, والأفضل دائما الاعتماد علي النفس, واعلموا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.