بعد رحيله بأكثر من37 عاما لايزال عميد الأدب العربي طه حسين مثيرا للجدل, وقابلا لقراءات متجددة تعيد تسليط الضوء علي إنتاجه الفكري والإبداعي, ولعل محاولة الكاتب حلمي النمنم في كتابه طه حسين والصهيونية الصادر عن دار الهلال أخيرا, واحدة من أكثر المحاولات جدية, حيث تقترب من قضية خلافية في حياة العميد, كما أن صاحبها اختار تحليل مواقف صاحب الأيام من القضية الفلسطينية ومن الفكر الصهيوني وهي أمور ظلت عالقة في مسيرته علي الأقل منذ أن روج لها الكاتب أنور الجندي في كتابه المعروف: طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام(1976), والذي انتهي مطمئنا إلي الطعن في وطنية عميد الأدب العربي وعروبته ودينه, بل وصفه بالتعاطف مع الصهيونية ومناصرتها, ذلك لأن طه حسين علي حد زعم الجندي طوال حياته الأدبية لم يكتب كلمة واحدة عن فلسطين, وهو زعم يفنده النمنم وينتهي إلي الإقرار ببطلانه. ولأن النمنم كما تشهد علي ذلك مؤلفاته السابقة مؤرخ مولع بالتوقف أمام السياقات الاجتماعية والسياسية المنتجة للفكر, فهو يمضي في كتابه مستعرضا سيرة العميد والمجالات التي قدم فيها عطاءه, وحصرها في ثلاثة مجالات, المجال الأول دعوته لتحديد الفهم والتفكير الديني: والثاني: رفضه للاستبداد السياسي, والثالث: دعوته لمجانية التعليم انطلاقا من موقف طبقي يقوم علي رفض القهر الاجتماعي. ويعود الكاتب إلي أرشيفات مختلف الصحف والمجلات التي شارك طه حسين بالكتابة فيها لينتهي إلي القول إن الجندي ومن تبعه في ترديد أحكامه في هذا الشأن مثقفون بالسماع لأن هذا الأرشيف فيه ما يكذب تلك الإدعاءات. ويحلل النمنم السياقات التي كتب فيها تلك المقالات مطمئنا إلي أن العميد كتب بعضها انطلاقا من عداء, واضح لسياسات الانتداب البريطاني في فلسطين, وأكثر من ذلك أنه لم يفصل ممارسات الانتداب عن سياسات الاحتلال البريطاني في مصر, كما ندد طه حسين فيها بالإنجليز والأوروبيين عموما, لافتا إلي ما يعرف الآن بسياسة ازدواجية المعايير إذ ذهب إلي أن الأوروبيين يحتكمون فيما بينهم إلي الديمقراطية وإلي العدل والقانون, لكنهم مع غيرهم يفعلون العكس تماما, وهي نبرة لم تكن شائعة في الخطاب العقلاني الذي تبناه العميد. ويرصد المؤلف ثلاثة مواقف أساسية في حياة طه حسين اتخذ منها خصومه مادة للهجوم عليه وحافزا علي إلصاق تهمة محاباة الصهيونية به, الأول يتعلق بإشرافه علي رسالة دكتوراه في جامعة القاهرة, تقدم بها الطالب إسرائيل ولفنسون عن اليهود في جزيرة العرب خلال الجاهلية وصدر الإسلام1927, والثاني: إلقاؤه محاضرة في مدرسة الطائفة اليهودية في شارع النبي دانيال في الإسكندرية عام1934 تحدث فيها عن اليهود والأدب العربي والثالث: ترؤسه لتحرير مجلة الكاتب المصري التي صدرت عام1945 وكان مؤسسوها من أسرة هراري اليهودية المصرية. ويفند النمنم تلك الاتهامات التي صدرت عن التباس في فهم هذه المواقف, مؤكدا أن رسالة الدكتوراه التي تقدم بها إسرائيل ولفنسون إلي جامعة القاهرة أشرف عليها اثنان هما الشيخ عبدالوهاب النجار الأزهري المعمم وطه حسين, وقامت لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أسسها أحمد أمين بنشرها في كتاب, ما يعني أن الرسالة تعكس بالدليل العلمي استفادة اليهود من الإسلام والمسلمين, أما محاضرة النبي دانيال, فينتهي فيها إلي تبني التفسير الذي انتهي إليه رجاء النقاش حيت كتب: ليس هناك لوم علي طه حسين, فالمحاضرة تم إلقاؤها في المدرسة الإسرائيلية في الإسكندرية, وكانت هذه المدرسة في ذلك الوقت1943 مدرسة مصرية معترفا بها تؤدي عملها بصورة علنية لا خفاء فيها, ولم يسجل عليها أحد أي مخالفة لقانون البلاد, ولابد من القول أيضا إن اليهود في مصر في تلك الفترة كان لهم وجود شرعي لا اعتراض عليه من أحد, وفيما يخص مجلة الكاتب المصري التي صدرت1945 ولعبت دورا مهما في تاريخ الثقافة المصرية, فالمعلوم تاريخيا أن أصحابها كانوا يهودا مصريين في زمن كانت مصر تستوعب فيه أبناءها من دون التوقف عند الديانات, ثم إن عائلة هراري هذه مؤسسة المجلة, ولم يعرف عن هذه الأسرة أي ميول صهيونية, لا وقت تأسيس المجلة ولا حتي بعد خروج اليهود من مصر. وبعيدا عن تلك الوقائع يثبت النمنم أن طه حسين نشر أكثر من مقال عام1945 الذي أنشئت فيه جامعة الدول العربية انتقد فيه موقف الجامعة من قضية فلسطين قائلا إنها لا تفعل شيئا سوي إصدار البيانات والتصريحات في حين تطالب الجماعات الصهيونية علنا بإقامة دولة لهم علي أرضها كما هاجم في مقالات أخري قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين عام1947 ما يعني براءته من تهمة تجاهل الخطر الصهيوني.