تحدثت عبر الهاتف وصديقتي الكاتبة الروائية رضوي. وهي سألتني عن قصة قصيرة لي عنوانها( بندول من نحاس) كانت لفتت انتباهها قبل سنوات طويلة وتريد أن تتثبت من تاريخ نشرها, أو كتابتها أو شيء من هذا القبيل. والدكتورة رضوي عاشور صاحبة الموهبة الكبيرة سيدة شجاعة شديدة الصلابة والعناد, وتكدح علي عملها حتي تصل الي ماتطمح إليه, ورغم أنني كنت انتهيت فورا من قراءة روايتها الكبيرة الأخيرة( الطنطورية) فقد فاتني أن أخبرها بذلك, ووجدتني مازلت أذكر تلك المعيدة الشابة صاحبة الاثنين والعشرين ربيعا تقريبا التي رأيتها أول مرة مطلع الستينيات في رحاب مولانا يحيي حقي بمقر مجلة( المجلة) بشارع عبدالخالق ثروت ثم تعرفت عليها عضوا بارزا ضمن رفقة من صديقاتها المقربات من أمثال أمينة صبري وأماني كامل وأميرة فهمي النشيطات تحت جناحي سيدتنا الكبيرة لطيفة الزيات وغير هؤلاء من رموز الستينيات من أمثال يحيي وأمل وعبدالحكيم وغالي وصبري وفتحي وجميل عطية ومنصور وعشرات غيرهم. كما مازلت أذكر ذلك العشاء الساخن الذي دعانا إليه الشاعر سمير عبدالباقي وزوجته الراحلة مصممة العرائس نجلاء في منزلهما بالهرم, حيث جلسنا عبدالحكيم قاسم ورضوي وأنا وتناولنا ذلك المحشي بمذاقه المميز لنعلم بعدما انتهينا أن الأرز لم يكن محشوا في ورق الكرنب أو الخص كما تصورنا ولكن في ورق اللفت الذي تم اقتراضه من الحقل المجاور لبيتهم. وكنا شاركنا جميعا ضمن من شاركوا في مؤتمر الأدباء الشبان الذي عقد عام1969 بمدينة الزقازيق, وهو المؤتمر الذي صار لايحسب, كرقم, ضمن مؤتمرات مصر الإقليمية فيما بعد, ربما لأسباب تتعلق بما أثاره من مطالب مقلقة أيامها. في ذلك الزمن كانت كلمة( معتقل) غير متداولة بصوت مسموع علي ألسنة الناس. المعتقلات ممتلئة بالمعتقلين ولكن المجاهرة بذلك ليس واردا أبدا. ولكن أبناء الستينيات, بالطبع, كانوا يحتجون ويعتصمون وينخرطون في تنظيمات وخلايا, وعلي منصة هذا المؤتمر كان وزير الداخلية شعراوي جمعة بملامحه الغضوب وساعديه أمامه. والي جواره من ناحية كان يوسف السباعي وزير الثقافة وجنرالها المعتمد والي يساره جلس محافظ الإقليم كما قعد صديقنا الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي في طرف الطاولة باعتباره أمينا عاما للمؤتمر. كان حجازي يقيد أسماء من يطلبون الكلمة في ورقة أمامه ليستدعيهم تباعا, وما أن جاء دور صديقتنا الشابة الصغيرة رضوي حتي تقدمت بقامتها النحيلة وصاحت في الميكروفون بصوت نقي وواضح مطالبة بضرورة الإفراج عن المتعلقين من الأدباء والفنانين فورا أو محاكمتهم محاكمة عادلة. كان ذلك تجاوزا لايمكن تصوره أو قبوله وتكهرب الجو من وقع الحدث وصرنا في انتظار كارثة محققة داخل قاعة المؤتمر ولكنها لم تقع. وما أن انقضت الجلسة حتي أسرعت أنا ووقفت أسفل المنصة العالية وسألت حجازي الذي لم يكن يعرفني إن كان ممكنا أن يعطيني الورقة التي قيد فيها أسماء من طلبوا الكلمة. كنت راغبا أن آخذ الورقة وأخفيها وقد ظننت أنني بذلك سوف أكون أخفيت صديقتي بعيدا عن أعين الأمن فلا يعرفون لها اسما ولا عنوانا ويتعذر الإمساك بها. وحجازي الذي تطلع الي مستغربا ناولني الورقة التي كانت الأسماء مدونة فيها. وعندما تقدم بي العمر, ونضجت نضاليا, شعرت بالقلق أن حجازي قد ظن أيامها أنني مخبر يطلب أسماء المعترضين, وكان مثل هذا الظن هو أقل ما يجب أن يظنه الواحد تجاه الآخر. هو بالطبع لا يذكر ذلك ولكنني في كل الأحوال, وجاءت المناسبة متأخرة, حوالي أربعين عاما, أن اشرح له ما جري. وفي مكالمتها الأخيرة أشارت رضوي لجيل الستينات الذي نشرف بالانتماء إليه, وقالت إننا ننتمي لجيل قوي: لأننا مازلنا علي أقدامنا. ولأن أحدنا ما زال لايكلم نفسه وهو يمشي في الشارع.. وصباح الخير يا دكتورة.