في عصر يتناثر فيه الضجيج من حولنا وفي اعماقنا, يصبح الاحتفاظ بقدرة التفكير المتوازن هي من الأمور الصعبة وغير الهينة. عن نفسي رأيت ايام العمر وكل ساعة فيها هي محاولة لتصور الامل القادم, وما ان ابدأ في التخطيط الي تحقيق هذا الأمل حتي يفاجئني الواقع بكثير من العقبات, انتصر علي بعضها, ويهزمني بعضها الآخر, ولكن ما ان اصل الي الحافة الأخري من نهر تحقيق بعض الآمال, حتي تتجلي أمامي اسباب وجود تلك العقبات التي لم انتصر عليها, وعندما تظهر أمامي اسباب القصور في كامل الآمال, اشعر اني قادر علي تحمل وخز اشواك بدء رحلة تعويض ما نقص من احلامي. ودائما أجد أن عيون القلب قادرة علي كشف ملامح طريق الأمل بشرط بسيط وصعب في آن واحد, هو ان يستوعب الانسان بتفكيره كل افاق ذلك الطريق. فعيون القلب هي التي دفعت نجيب محفوظ علي الا ينتظر عائدا مباشرا لابداعه الروائي, حتي جاءته نوبل مستغفرة عن سنوات تمن تجاهل, لتأتي من بعدها سنوات من إعتراف حقيقي مشفوع بكامل التقدير من مجتمعاتنا العربية, فارادت نوبل ان تضيف لنفسها شرفا بان تضمه الي قائمتها, وعيون القلب هي التي دفعت مجدي يعقوب ألا يشرب كأس المرارة حين استولي احدهم علي درجته العلمية المخصصة له بطب القاهرة, فشق طريقه العلمي في لندن ليصل الي مرتبة يصعب ان ينالها جراح للقلب في أي مجتمع, ثم يعود ليروي ظمأ أهل اسوان الي مستوي طبي راق وغير مسبوق. هذا ما يحدث عبر ارادات افراد تحملوا مرارات الصبر أولا ثم حققوا ما يصعب ان يناله كائن بشري, وهم نالوه عبر الجهد المركز والمستمر والصبور. وعلي الرغم من إنتصارنا المدوي بحرب النصر في أكتوبر1973 أن قوي الكون المتربصة بنا اخترعت لنفسها عدوا تخيف نفسها به, وتتاجر به علينا نحن بدعوي أننا مصدر ميلاد هذا الخصم الجديد للحضارة, وأعني به تركيز الخوف من الاسلام واعتباره نبع التهديد للحضارة المعاصرة. وطبعا تقبل العديد منا دور الضحية الخائفة من هذا الخصم الجديد, خصوصا ان بعضا من سهامه تلقيناها في صدورنا, حين حاول الارهاب ان يصور نفسه بعمليات اقل ما توصف به انها دنيئة, وعندما نتوغل في فهم كيف تم تجنيد هؤلاء للعمل ضد البشرية نجد انهم كانوا ادوات سابقين لاجهزة مخابرات عالمية, شاءت ان تستخدم الدين كغطاء لحربها مع عدوها السابق المتمثل في شيوعية المعسكر الشرقي, ورأينا كيف تم إستخدام قطعة متهرئة من القماش في يد الملا محمد زعيم طالبان بافغانستان ليبيع بها وهم انها من ملابس سيد البشر محمد بن عبدالله, وأنها وصلته عبر الحلم ليعلن بها الكفاح ضد الشيوعية مرة, ثم ضد الامريكيين مرة اخري حين هاجموا افغانستان بعد ان قام بعض من شيوخ الملا محمد بتدبير حادث تفجير برجي التجارة العالمي بنيويورك, هذا التفجير الذي تم الرد عليه بحماقة موازية له وهو تدمير افغانستان, كل هذا الدمار تم ببيع وهم قطعة من قماش ادعي صاحبها أنها للنبي الذي ارسلته السماء رحمة للعالمين, ثم جاء من بعدها انتشار لنفس المنهج التدميري بالعراق بعد ان دخلته القوات الامريكية, فلم يكن بالعراق قبل احتلاله ما يسمي بتنظيم القاعدة الذي يحترف زراعة الموت في كل ارض يصل إليها, وكأن القوات الامريكية تصحب في ذيلها تخلفا غير مسبوق تتركه في الأرض المحروقة بالاذلال تارة وباستخدام اسلحة يتم تجريبها في البشر تارة ثانية, ثم زراعة وهم الحلم بالديمقراطية تارة ثالثة, وليظل العراق نزيفا عربيا واسلاميا لا نهاية له حتي كتابة هذه السطور. ومن يقرأ التاريخ المصري يمكنه التعرف علي الكيفية التي استطاعت بها مصر هضم حضارة الاسلام من صناعة وانتاج فني رفيع, تلك هي قناعتي المؤكدة خلال الاربعة أشهر الأخيرة والتي كانت تحمل لي متابعة اسبوعية لحدث كريم وحكيم لرحلة تجديد منارة الفنون والحضارة الاسلامية الكائنة في قلب حي باب الخلق, وكانت رحلتي تلك تتم بالمصادفة, لاني اصادف هذا المتحف في طريقي الي حي باب الخلق حيث توجد المعشوقة ذات الحسن والبهاءوهي دار الكتب, تلك التي اطالع فيها اسبوعيا بضع صفحات من موسوعات الفنون البشرية. وأتمني ان يكون افتتاح هذا المتحف من جديد فرصة لوسائل الاعلام ان تقدم إزدهار الحضارة الاسلامية عبر مرورها بمصر, تلك التي اهدي المقوس حاكمها في عصر النبوة سيدنا رسول الله عدة عباءات كعادة اهل الزمن القديم في تبادل الهدايا, وكيف ارتقت فنون النسج والخزف والخشب والمعادن في مصر المحروسة عبر التاريخ. ولن انسي أياما وليالي قضاها الفنان عازف موسيقي تشكيل النحاس وهو الراحل محمد رزق من اجل ان يغزل بأزميله بعضا من منتجات هذا المتحف, وهي منتجات آثارت كل مكان عرضت فيه بالولايات المتحدة واوروبا. وكلما تأملت قطعة من تحف هذا المكان تتأكد لدي الحقيقة الواضحة وهي ان العمل الثقافي هو وحده القادرعلي ان يمسك بالسياسة من رقبتها ليصعد بها الي سحابة عالية كي تستكشف لنفسها طريقا يخرجها من وحل تسير فيه, وحل تأسيس العداء بين البشر عبر تزييف الدين وإساءة استخدامه في أيامنا الملتهبة بأبخرة الصراع غير المقبول بين اديان السماء. يبقي من مسئولية الاعلام ان يورخ لكل قطعة مبدعة من قطع المعروضات بهذا المتحف وغيره ليعرضها كفواصل بين البرامج المختلفة, ليعيد البشر التعرف علي حقيقة ما يضيفه الايمان من عمل مبدع وخلاب, ولنري بعيون القلب ابداع مؤمنين بحق لفنون بناء الحياة بدلا من فنون صناعة الموت التي يحفرها لنا اعداؤنا.