نعم يا أبي, قم وجهز أمورك, إن القطار غدا في انتظارك, تبدأ مسعاك للقاهرة, وإياك تنسي لوازم عيشك, عند الصباح مشينا, وكان القطار بعيدا, وأختي الصغيرة تحمل في سلة ما تضيق الحقيبة عنه أبي يتقدمنا في الطريق, وقلبي منفطر الحال منشطر حين سالت دموعي, وأمي تحاول إخفاء دمع تحجر في مقلتيها, أتاني الصباح الذي طالما خفته, والصباح الذي طالما شاقني وانتظرت, أتاني مقتلعا عالمي, سوف يرمي بهذا الصبي الصغير الغرير هنالك في قبضة القاهرة, وسوف يكون من اليوم ضيفا إذا جاء وقت الاجازة, ماعاد هذا المقيم الذي يتنفس عطر المكان, ورائحة الدار, عالم صبوته الباكرة, وسوف يجيء وقد شتتته المرائي, وداسته قسوة أيامه, واستبيحت ممالكه, وانطوي الحلم في الذاكرة. يجرجر قلبي القطار, وخوفي من الغد والبعد يزداد, وجه أبي يتباعد خلف الحقول, وراء البيوت, أحاول إمساكه, وهو يفلت مني, فيبزغ لي وجه أمي, الدموع تسيل علي وجهها, والقطار الرهيب يدوي, أحاول كفكفة الدمع, لا أستطيع, أحاول إيقاف سيل المشاهد لا أستطيع, أفيق وقد وصل الركب, وجه قريبي هنا في انتظاري, يداه تشيران, أقفز في خفة لا أبالي بأن الذي قد حملت ثقيل, ولابد ممن يساعد, هذي بداية خطوي الي عالم مبهم, وفضاء بعيد, وحلم تجسده الجامعة. دموع من القلب تصعد كل صباح يجيء, ووجه أبي يتراجع, حتي تجيء رسائله أول الشهر تحمل لي مايقيم الأود, وأمي التي تتلهف باحثة عن زميل سيأتي, يسافر حيث ابنها كي تحمله ماتيسر من صنعها من طعام تود لو اتسع الوقت في كل يوم له, سيمضي الفتي نحو غايته لاهثا, تلك أيامه تتراكم, يزدحم القلب بالوحدة القاسية, وعالم قريته في البعيد يظل يشاغله. هنالك تحت ظلال النخيل, وفي شجر التوت, في ضفة النهر, في حضن جدته, وطفولته الحانية, ظلال تغيم, ووجه أبيه يعود إليه, هما عائدان الي البيت بعد انقضاء الدروس, يحاوره طيلة السير عن حلفاء وعن محور في الحروب, وعمن يكون له النصر, من يملك القوة القادرة؟ يجيب أبوه, ويدرك أن الصغير يطالع مافي الصحيفة, في الليل يسمع صوت القنابل, والغارة الغادرة, ووجه حبيبته جدته وهو يأوي إليها, لتأخذه ملء عالمها, تستعين علي الوحشة الطاغية, فيروي لها ما حكاه أبوه عن الحرب, والرعب, وهي تزيد انكماشا, وتأوي إليه, تري فيه وجه الحفيد الذي سوف يصبح مثل أبيه, عطوفا, حنونا, عليها. ووجه أبيه يعاوده وهو يكبر عاما فعاما, فيدرك كم حمل العبء, كم كان حجم المعاناة والتضحيات, وكم كان حجم الجهاد الذي راح يصنع منه البنين ويصنع منه البنات, لمملكة الفاء نحملها أجمعين. ويمتد خيط السنين, وجوه تغيب, وجوه تجيء, ووجه أبي شاخص, فيطول بنا العمر, يمتد مابيننا من شجون, وما بيننا من حكايا, وتفلت منا الليالي سراعا, وها نحن يجمعنا حوله, والسنون الطوال علي وجهه, تجاعيد عمر تقضي, أخاديد ذاك الجهاد الذي لم يفارقه حتي النهاية, وهو علي عرشه, والصغار حواليه, يمتلئ البيت, يمنحنا عطر أنفاسه, نبض قلب تحمل مالا يطاق, حرارة وجدانه اللافحة. وأسأل كيف غفلنا, وقد كان يفلت منا, ذراعاه لا تقويان علي ضمنا, وقد كان يمعن في البعد يوما فيوما, ويأخذه الجزر منا, ويسحب للقاع هذا البهاء الجليل الذي يملأ البيت والقلب, كنا نظن بأن أبي نخلة لا تشيخ, امتداد الي آخر الدهر, يسطع فوق المكان وفوق الحقول, ويوغل مخترقا في الزمان, وانا سنلقاه دوما, كما كان, نأوي إليه ونلتف, لسنا نحس اقتراب الرحيل. ووجه أبي لايزال هناك, أراه إذا ماعبرت الي النيل, فوق سرير النهاية, يجري إليه الطبيب, ونركض نحن إليه, ونمسكه من يديه, نهز الذي قد توقف في الصدر, نبكيه, هذا هو المستحيل! المزيد من مقالات فاروق شوشة