هؤلاء السادة الذين لا يكفون عن شن حملاتهم علي من يسمونهم التنويريين من المثقفين المصريين وتحريض الدولة والناس عليهم. كيف نسميهم؟ هل نسميهم أعداء النور؟ حراس الدجنة؟ أم نسميهم خفافيش الظلام؟ ولست في حاجة لأنبه القراء الأعزاء الي أن هؤلاء السادة لا يقصدون بهذه التسمية التي يطلقونها علي المثقفين المصريين معناها الواضح المعروف هؤلاء لا يعترفون للمثقفين المصريين بأن ما يقولونه, وما يكتبونه, وما يدافعون عنه يجعلهم أهلا لهذه التسمية بمعناها الحقيقي, وإنما يقصد هؤلاء بهذه التسمية معني آخر يلصقونه بها, ويفرضونه عليها, حين يتهمون هؤلاء التنويريين بالنقل عن الغربيين, وتبني كلام المستشرقين المعادين للاسلام, والتشكيك في الثوابت, والخروج علي الاجماع.. إلي آخر هذه التهم البغيضة التي تساق وكأنها أوصاف وتسميات أخري للتنويريين ترادف التسمية التي أطلقت عليهم وتوضح معناها. فالتنويري في هذا السياق عدو أو خصم لعامة الناس من البسطاء الذين يقدسون تراثهم, ويعتزون بتاريخهم, ويضحون بكل ما يملكون في سبيل الذود عنه, لأنه ثروتهم الأولي, وبالنسبة لمعظمهم هو الثروة الوحيدة. خصوم الاستنارة لا يناقشون من يختلفون معهم من المثقفين المصريين, ولا يوضحون موقفهم من المباديء والقيم والأفكار التي يتبناها المثقفون ويبشرون بها, لأنهم أي خصوم الاستنارة لا يحبون أن يعترفوا بمعاداتهم لها اعترافا صريحا, ولا يستطيعون أن يشهدوا علي أنفسهم بالجهل والتخلف. وبدلا من أن يدخلوا مع المثقفين المصريين في معركة شريفة يعلمون مسبقا أنهم سيخسرونها يتجهون بالخطاب الي الأميين والبسطاء يحرضونهم علي المثقفين, ويشوهون صورتهم, ويحولون الاستنارة من رسالة سامية يستحق حاملها التحية والمساندة الي تهمة أو فعل معيب يثير الشعور بالعداء والنفور. والحقيقة أن التنوير ومشتقاته ليس الكلمة الوحيدة التي تعرضت للعبث الشديد علي أيدي هؤلاء الذين فرضوا أنفسهم علينا باسم الدين, فأصبحنا لا نفتح صحيفة ولا نجلس أمام التليفزيون إلا وتطالعنا وجوههم, وتحاصرنا أصواتهم, وتسد علينا الطريق. لقد عبثوا بكلمة الأمة وأفسدوا معناها الذي نشأنا عليه, وعرفنا منه تاريخنا, ورسمنا مستقبلنا. فالامة التي انتزعت استقلالها من الاتراك والانجليز, وفرضت دستورها علي القصر وصاحب القصر, ووحدت الهلال والصليب, وبنت دولتها الوطنية ونظامها الديمقراطي هي الامة المصرية التي لا أري أمة أخري ننتمي إليها. ولا شك أن غالبية المصريين مسلمون, لكن الإسلام دين وليس قومية, كما أن المسيحية التي يدين بها ملايين من المصريين دين وليست قومية, أما الذين يريدون أن يفرضوا مفاهيم العصور الوسطي علي عصرنا الحاضر, ويظنون أن المصري والتتري والصيني والصربي يمكن أن يجتمعوا في كيان سياسي واحد فهؤلاء مهرجون لا يمنعهم من مواصلة العبث ولا يوقفهم عند حدهم عقل أو ضمير. الذين يريدون أن يحلوا الملة محل الأمة هم الذين يريدون أن يسقطوا الدولة الوطنية وينشئوا بدلا منها خلافة أو سلطنة نعود فيها عبيدا أو أقنانا كما كنا في أيام العثمانيين والمماليك وغيرهم, ومع أن هذه الخلافة المزعومة لن تقوم أبدا فهم يطلبون منا أن نضحي بالامة الحقيقية الموجودة منذ آلاف السنين لنجري وراء وهم لن نلحق به الي يوم القيامة, وهذا ما يجب أن نشكر الله عليه, فلو أننا لحقنا به لأصابنا منه أذي كثير! ومن الطبيعي أن يمتد العبث الذي لحق بمعني الأمة ليلحق بمعني الوطن, ولعلكم قرأتم أو سمعتم عن زعيم من زعماء هذه الجماعات لم يتردد في أن يقول إنه سيبايع الخليفة القادم حين تعود الخلافة الاسلامية للحياة! ولو كان ماليزيا! ولا أظن أني في حاجة للحديث عن العبث المتعمد بكلمة العلمانية, وعن نجاح العابثين بها في تشويه معناها وتنفير الناس منها, لأن العلمانية هي العقلانية وهي الحرية وهي الديمقراطية التي تكالبت عليها قوي مختلفة تتسابق في استغلال الدين وتسخيره لخدمة أغراضها الشريرة. لكن أعداء التنوير يخدعون البسطاء وأنصاف الأميين وأنصاف المتعلمين ويوهمونهم أن العلمانية هي الكفر والالحاد, مع أن الاسلام هو الدين الذي لا يمكن أن يتناقض مع العلمانية. لأن الاسلام لا يعرف الكهنوت, ولا يعرف السلطة الدينية, ويجعل امور الدنيا للبشر يتصرفون فيها بما يتفق مع المصلحة والعقل كما نفهم من الحديث النبوي الشريف أنتم أعلم بأمور دنياكم. لكن هؤلاء السادة لا يطلبون الحق ولا يعنيهم أمره, وإنما تعنيهم مصالحهم وأطماعهم التي يعلمون علم اليقين أنها لن تتحقق إذا نجح المثقفون المصريون في أن يستعيدوا للعقل مكانه وللحرية سلطانها. المثقفون المصريون يرفضون أن يتداووا ببول الابل, ولا يصدقون أطباء القنوات الدينية الذين يزعمون أن إطالة اللحية ضمان للفحولة الجنسية, وأن الذي يحلق ذقنه معرض للعجز الجنسي! ومع أن المثقفين المصريين منحازون للسفور فهم يرفضون العمل بالحل اللذيذ الذي قدمه أحد أصحاب الفضيلة للمشكلة التي ترتبت علي خروج المرأة من سجن الحريم واختلاطها بالرجال في قاعات الدرس وساحات العمل ودواوين الحكومة. إذ يري هذا الشيخ الفاضل أن الاختلاط خاصة في الأماكن المغلقة خلوة محرمة تعالج بأن يتحول زملاء العمل أو الدراسة الي محارم, وذلك بأن تقوم الزميلة الفاضلة بارضاع زملائها من ثديها فيصبحون أبناء لها بالرضاعة, وفي هذه الحالة نستطيع أن نغلق عليهم الأبواب ونحن مطمئنون! والمثقفون المصريون في البداية والنهاية يقاومون حكم الفرد ويحاربون الطغيان. والمثقفون المصريون يبشرون بعصر جديد ومجتمع حي ناهض يؤمن إيمانا لا يتزعزع بالعقل والديمقراطية وحق الانسان في دنيا سعيدة, تلك هي المصابيح التي يحملها المثقفون المصريون في ليلنا المدلهم. وهذا هو التنوير!