حذرت قبل عدة سنوات من مخاطر استبدال تبعية الإعلام المصري للحكومة بتبعيته لرأس المال الخاص, ومبعث هذا التحذير كان الخوف من الدعوات المتحمسة والمندفعة لتحقيق حرية أكبر للإعلام, والتي كان يحركها ويروج لها بعض رجال الأعمال, ممن كانوا يرغبون في خصخصة بعض الصحف ووسائل الإعلام وامتلاكها بأرخص الأسعار, ونفس هؤلاء الأشخاص تقريبا, وقفوا وراء حق الأفراد في امتلاك الصحف والقنوات التليفزيونية. لم يكن الحذر أو الخوف من حرية الإعلام, فهذه قضية لا يختلف عليها أبناء الوطن, وإن اختلفوا في شروط ممارسة هذه الحرية وحدودها, كذلك لا يوجد خلاف حول حق الأفراد في امتلاك الصحف والفضائيات, فهو حق أصيل تضمنه مواثيق حقوق الإنسان, لكن الخوف كان من ظهور احتكارات إعلامية وتركيز في ملكيات وسائل الإعلام, والأخطر تسليع الإعلام وتحويله إلي مجال جديد للتجارة والربح السريع علي طريقة بعض رجال الأعمال المصريين ممن يجيدون المضاربة علي الأراضي والاستيراد وإدارة التوكيلات الأجنبية, دون التفكير في إنشاء المصانع أو التصدير للخارج. سيقال إن الإعلام أصبح صناعة وتجارة راجت هذه المقولات في السنوات العشر الماضية, وبالتوازي مع أيديولوجيا الخصخصة, حيث ظهرت صحف وفضائيات خاصة, دون أن تظهر معها قوانين ومواثيق شرف مهنية تنظم عملها, أو تنظيمات نقابية للعاملين فيها, لذلك بدت علاقتها بوزارة الإعلام واتحاد الإذاعة والتليفزيون غير واضحة, من هنا كان العائد هزيلا ومحدودا للغاية سواء من الناحية الإعلامية أو التنموية, بل ومن ناحية ضمان حرية الإعلام, فلا يخفي أن رأس المال الخاص له حسابات معقدة ومصالح كثيرة تحد من حرية الإعلام, ولعل أزمة الدستور تكشف عن مدي تحكم ملاك الصحف الخاصة في العاملين بها, وسيطرتهم علي سياستها التحريرية دون إتاحة أي فرصة لمشاركة العاملين في تلك الصحف في اختيار رؤساء تحريرها أو وضع سياستها التحريرية. أزمة الدستور في اعتقادي أزمة كاشفة لأزمات الإعلام المصري عامة, إذ فضحت: أولا: تشابه أوضاع الصحف والفضائيات الخاصة, فأغلب العاملين فيها معينون إما في الصحف القومية أو التليفزيون الحكومي ولا توجد عقود محددة بين كثير من الصحف والفضائيات الخاصة والعاملين بها, وإن وجدت هذه العقود فهي تقتصر علي الحقوق والالتزامات المالية, وساعات العمل دون أن تتطرق لضمان حقوق الصحفي في حالة اختلافه مهنيا أو فكريا مع ملاك الصحف والفضائيات الخاصة. ثانيا: عدم وجود سياسة تحريرية مكتوبة أو معلنة للصحف والفضائيات الخاصة, فعندما انفجرت أزمة الدستور تحدثت كل الأطراف عن السياسة التحريرية بعبارات عامة وغامضة تتحمل أكثر من تفسير وتأويل, واكتشف الرأي العام أنه لا وجود لسياسة تحريرية مكتوبة يتدرب عليها الصحفيون الجدد ويتعلمونها بالممارسة, وليس وفقا لأهواء رئيس التحرير أو ملاك الصحيفة, من جانب آخر, فإن الإعلان عن السياسة التحريرية هو حق أصيل للجمهور الذي من حقه أن يعرف, وأن يقيم مدي التزام الصحيفة التي يشتريها بسياستها التحريرية. ثالثا: جمود الأطر التنظيمية والقانونية القائمة, بما فيها المجلس الأعلي للصحافة ونقابة الصحفيين واتحاد الإذاعة والتليفزيون, وعدم قدرتها علي احتواء أو تنظيم التطورات التي لحقت بالمشهد الإعلامي الحالي, إذ تبدو قديمة وعاجزة عن الحركة الفعالة وتنظيم مبادرات جديدة, والمطلوب إعادة النظر كل في هذه الأطر والتنظيمات وأن تصدر قوانين جديدة منها قانون موحد للبث الإذاعي والتليفزيوني, وقانون موحد لتنظيم الصحافة, بحيث يضمن فصل الإدارة عن رأس المال, والإعلان عن السياسة التحريرية, والإفصاح الدوري عن أعداد التوزيع ومصادر الدخل والتمويل, كما يكفل الحماية والدعم القانوني والنقابي للإعلاميين إذا اختلفت مواقفهم مع الحكومة أو رجال الأعمال الذين يملكون أو يمولون الصحف أو الفضائيات الخاصة, وبغير هذه الضمانات سيظل الإعلاميون عرضة للفصل أو التضييق علي حريتهم في مقابل توحش رأس المال, وسيبدو وكأنهم استبدلوا سيطرة الدولة بسيطرة رجال الأعمال ومصالح أصحاب الإعلانات, أو أضافوا إلي سيطرة الدولة سيطرة وتحكم رجال الأعمال. رابعا: من الضروري استحداث أشكال تنظيمية ونقابية مستقلة للإعلاميين في الإذاعة والتليفزيون الحكومي والفضائيات الخاصة ومواقع الإنترنت الإخبارية( الإعلام الإلكتروني) وإصدار قانون يلزم الإعلاميين في كل وسائل الإعلام بالحوار للاتفاق علي ميثاق شرف إعلامي ينظم أداء الإعلام المصري, ويضع ضوابط مهنية وأخلاقية, وجزاءات رادعة تطبق بحزم وبمساواة علي كل المخالفين. خامسا: إصدار قوانين تمنع الاحتكار وتركيز ملكية وسائل الإعلام, وتشجع علي قيام أشكال تعاونية تضم العاملين في وسائل الإعلام وتمكنهم عبر سلسلة من التسهيلات من تملك الصحف والقنوات التليفزيونية التي يعملون بها أو تملك نسب تزيد علي50% من أسهم الصحف الخاصة والقومية, مما يعني إعادة النظر في الملكية الافتراضية لمجلس الشوري للصحف القومية وتمليكها بنسب محدودة لا تزيد علي1% لكل صحفي, ولعل من الضروري هنا إلغاء الحظر الحالي الذي يفرضه القانون علي تملك الصحفيين أسهما في الصحف التي يعملون بها. سادسا: تشجيع ودعم قيام جمعيات للدفاع عن حقوق المواطنين في الحصول علي خدمات إعلامية متنوعة ومميزة ووفق المعايير المهنية المعترف بها دوليا, كما تكفل هذه الجمعيات حقوق المواطنين في المشاركة في إنتاج الخطاب الإعلامي والتعبير الحر عن الآراء, والتصدي لجميع مظاهر سوء استغلال الإعلام, والحق في محاربة احتكار ملكية وسائل الإعلام. في الأخير أري أن المقترحات السابقة يمكن أن تشكل بداية متواضعة لحوار قومي يشارك فيه جميع أطراف المنظومة الإعلامية.