هي ساعات طويلة تمضيها في الحافلات ومسافات بعيدة تقطعها كي تصل إلي الشرق خصوصا تلك المناطق المتجهة نحو الجنوب والمسكونة دوما بكابوس الإنفصال. أما إذا قررت اتخاذ القطار كوسيلة لسفرك فسيكون أمامك خمسون ساعة كاملة وربما أكثر تقضيها بين الجبال عابرا تجويفات منها ما هو شديد الانحناء, والذي سرعان ما يسلمك لآخر, وهكذا في سلسلة من الانفاق علي طول الخط الحديدي المفرد, والذي يبدو لك أنه لا ينتهي, وبين النفق والتالي له فأنت علي موعد مع آيات من جمال الطبيعة الساحرة. غير أن السفوح والتلال الشاهقة تحمل آهات شجن وذكريات مؤلمة تختزنها في مرارة من فرط ما شاهدته من أهوال وأنهار من الدماء الذكية التي أستبيحت عمدا مع سبق الاصرار والترصد. وها هو شعور يتسلل لك رويدا رويدا فرغم أنك لم تبرح جغرافيا الاناضول وحدودها المعترف بها من قبل الكافة إلا ان العين تلتقط مشاهد جد مختلفة بيد أنها مزجت بمفردات شفاهية ليست لهجات بقدر كونها لغات قائمة بذاتها وبحيث توحي لك انك انتقلت من دولة إلي أخري, في حين أنك مازلت في الأرض ذاتها وتحت نفس السيادة. إذن ما الذي يحدث منذ أن تنطلق من محطة الركاب الهائلة في ضاحية إسنلر بالشطر الأوروبي من أسطنبول متجها إلي تونجلي ثم بطمان وسيرت وإخيرا ديار بكر يمكن للمرء أن يلحظ أشياء لافتة فالمسافرون رجالا ونساء وهم من المواطنين العاديين الذي لا يملكون تكاليف السفر بالطائرات تجدهم وقد ارتدوا أزياء لا تبدو مألوفة مقارنة بالسائد في وسط الاناضول أو غربه السيدات يرتدين ملابس ألوانها تبدو صاخبة وفي معصمهن رصت حلقات من الحلي والاكسسوارات, أما معشر الرجال فلباسهم لا يتناقض مع المعاش باستثناء هذا الحزام العريض من القماش الذي يلفون به خصورهم وأمر آخر شديد الدلالة والأهمية وهو أنهم يعتبرون عبد الله أوجلان زعيمهم المفدي, وتمر الساعات الاولي من الرحلة الطويلة, وفيها تنعقد الصلات رويدا رويدا, ويتعرف مسافرون علي غيرهم إلي أن يعم الحديث ارجاء الحافلة دون ان تفهم شيئا والسبب ببساطة هو أنهم يتحدثون' بلغتهم الوطنية' أنها اللغة الكردية. وعندما يأتي وقت الاستراحة تتوقف الحافلة لدقائق حينذاك تصبح أمام حيوات أخري وعوالم مغايرة, فمعظم من كانوا في السيارة يتخاطبون مع القائمين علي الكافتيريات بنفس اللغة حتي الصغار بنين وبنات يمرحن ويلهون مع بعضهم البعض بكلمات مستقاة من لغة أجدادهم, لقد تعودوا الحديث بها مع ذويهم الذين يلقنونهم المفردات تلقينا والويل لمن يتكلم في المنزل بغيرها. أمام تلك المشاهد كان طبيعيا أن يشعر المواطنون الاتراك بأنهم صاروا أقلية ولا مبالغة في أن بعضهم وهم يتحدثون كاد كلامهم أن يكون همسا كي لا يصبحوا نشازا في أرض لم تعد أرضهم لقد تيقنوا وبما لا يدع مجالا للشك: الان لم نعد في تركيا!! وهكذا يتراكم في النفوس غيظ مكتوم سرعان ما ينفجر في أي لحظة حدث هذا في قيصري مسقط رأس الرئيس عبد الله جول الكائنة وسط الاناضول, والتي تبعد عن العاصمة أنقرة300 كيلو متر, ففي اثناء جنازة لاحد ضباط الجيش الذي أستشهد في معارك ضد الانفصاليين هجم واحد من أقرباء الراحل علي وزير الطاقة يوسعه ضربا لاعنا حكومته لسعيها إلي ما تسمية الانفتاح الكردي الذي جلب الخراب, ولم يكتف بذلك بل راح يصرخ في الجميع انظروا إن مدينتنا لا تخلو من الجنازات. وقبلها بأيام كانت الواقعة التي طالت احمد تورك زعيم التجمع الديمقراطي الكردي, وكان مسرحها مدينة سمسون المطلة علي البحر الاسود, وفيها تهشمت أنف الرجل بفعل لكمة مباغته من الشاب الذي ظل واقفا رافضا الاعتذار فلأنه مواطن تركي فقد فعل الصواب هذا ما صرح به أمام سلطات التحقيق التي وجهت له تهمة الاعتداء علي مواطن مثله!!