في هيروشيما يستطيع المرء أن يري بعينيه, ويسمع بأذنيه أصداء انفجار القنبلة الذرية رغم تعاقب السنين: شاخصة ماثلة, سواء كان ذلك علي لسان من تبقي من الأحياء الناجين من هذا الانفجار الرهيب, أو فيما تبقي من الأطلال ذات الصمت المهيب الذي يعبر عما لا يستطيع أن يعبر عنه أبلغ لسان!! في ظل هذه الأجواء الصامتة الناطقة انعقد مؤتمر حافل تحت عنوان(الأديان من أجل السلام) وكان الحديث الذي فرض نفسه علي العقل والقلب جميعا هو البحث في' أزمة الإنسان المعاصر'.. فماذا تكون تلك المأساة في هيروشيما سوي تعبير صارخ شديد الوقع عن تلك الأزمة, وماذا يكون للأديان علي تنوعها وتعددها من هدف تجتمع حوله أكثر سموا وأعظم إلحاحا من السعي إلي' تشخيص' تلك الأزمة, ثم تنبيه البشرية إلي المصير البائس الذي تسير نحوه معصوبة العينين إن هي قصرت في محاولة البحث لها عن علاج؟؟. لكني لم أجد في توصيف أزمة الإنسان المعاصر: أعظم تعبيرا أو أصدق حديثا من التحذير الإلهي المعجز( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) وكأني أسمع من خلاله الإنذار الإلهي يقرع سمع البشرية بمصدر أزماتها, ومبعث شقائها, ومكمن تعاستها..إنه' الخواء الروحي' الذي تعددت مظاهره, ولا تزال تتعدد, وتمددت أبعاده ولا تزال تتمدد!! فلقد استسلمت البشرية بتأثير هذا' الخواء الروحي' لإغراء الفلسفات المادية التي أقصت الدين عن حياة البشر, وارتهنت الإنسان لنزعات المادة التي سدت أمامه منافذ الروح ومطالبها العليا, ومن ثم فقد افتقد الإنسان الفرد والمجتمع السكينة الداخلية في عمق ذاته, لتحل مكانها نزعات الأنانية والفردية والأثرة, ولتسكنها أنواع شتي من الصراعات الداخلية التي مزقت تلك الذات شر ممزق, ثم وفدت علي البشرية: موجات العولمة الطاغية فغمرتها بتجلياتها التي ظاهرها الرحمة, وباطنها العذاب, فإذا بما خفي من الصراعات وقد انفجر كبركان مدمر, وبما استكن من الإثنيات والعرقيات وقد استيقظ كشيطان هائج, وشقيت البشرية ولا زالت تشقي بهذه الدائرة الجهنمية التي تدور رحاها كحلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها!! كما فقدت الإنسانية بتأثير هذا الخواء الروحي المعني الحقيقي( للسعادة), فأصبح هم الإنسان أن يبحث عن السعادة في' الأشياء' لا في المعاني, ويلهث في الحصول عليها' خارج' الذات لا في عمق الذات, ويسعي إلي اقتناصها في لذائذ البدن, لا في متعة الروح, وفي إطار المخلوقات والمصنوعات وليس في رحاب الخالق الصانع, وبهذا أضحت السعادة أمرا نسبيا, متغيرا زائفا, سرعان ما يفقد معناه, ويفتر تأثيره.. فيحل القلق محل الطمأنينة, وتحل التعاسة محل السعادة!! وبتأثير هذا' الخواء الروحي' غفلت الإنسانية عن استثمار المفهوم الإسلامي الأصيل في( الإحسان) وهو مفهوم غرسه الإسلام في عمق النفس البشرية( إن الله يحب المحسنين)( للذين أحسنوا الحسني وزيادة), وهذا الإحسان وإن كان له جانبه الإلهي فإن جانبه الإنساني يقوم علي( العطاء الإنساني الوفير) بحيث لا يقف التعامل بين البشر عند حد التبادل المادي المصمت الذي يكون في أحسن حالاته قائما علي مساواة الأخذ للعطاء, كما يكون في حالات كثيرة أخري قائما علي زيادة الأخذ علي العطاء, فالإحسان في الإسلام يقوم علي العطاء الذي يفوق الأخذ, بل الذي قد يتم فيه البذل دون انتظار للأخذ, وهو ما يعبر عنه قوله تعالي( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا). إنه بتأثير سيادة مفهوم التبادل المادي المصمت_ عانت الشعوب المقهورة من امتصاص الثروات, واتساع الهوة بين شمال العالم حيث الوفرة والثراء, وجنوب العالم حيث العوز والجدب والفاقة, كما عانت أيضا من استخدام أراضيها مدافن للنفايات الذرية, وساحات للحروب بالوكالة, ومن استخدام أبنائها مصادر للعمالة الرخيصة وللأعضاء البديلة, دون احترام لكرامة الإنسان جسدا وروحا. - وبتأثير هذا' الخواء الروحي' فقدت الدعوة إلي السلام: وهجها وصدقها وفعاليتها, لأنها أغفلت جناحها الثاني وهو' العدل', فالسلام بدون العدل دعوة جوفاء عاجزة, كأنها صرخة في واد أو نفخة في رماد, ومن ثم فإن علي المخلصين من علماء الأديان أن يشكلوا ما يمكن أن يجسد( ضمير العالم) الذي يعلن صوت العدل المجرد, الذي لا تحركه أهواء السياسة وتقلباتها, ولا تزيفه حملات الإعلام المصنوعة, وأبواق الدعاية الصاخبة, بل يكون أذنا واعية ترهف السمع لأصوات المظلومين ونداء الجوعي, والام المرضي, وأنات المقهورين, لكي تقال في قضاياهم كلمة العدل, التي لا محيد عنها رغبا أو رهبا!! - وبتأثير هذا' الخواء الروحي' أصبح الإنسان يتعامل مع البيئة الكونية في قسوة متوحشة, دون اكتراث بما ينجم عن ذلك من إفساد منظور أو غير منظور, وفي غفلة عن أن هذا الكون إنما هو(صنع الله الذي أتقن كل شيء), وأن إفساده إنما يمثل خطيئة فادحة في حق' الاتزان الكوني' الذي تتسم به صنعة الكون, وفي حق' قيمة الجمال' الذي أودعه الله تعالي في قلب الكون, كما أنه أيضا خطيئة كبري في حق الأجيال القادمة من بني البشر, تلك التي سترث تركة مثقلة بالتلوث البيئي, والاحتباس الحراري, وغيرهما من مظاهر الإفساد بغير ذنب ولا جريرة!!. لقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم حين يمر بجبل( أحد) يشير إليه قائلا:(هذا جبل يحبنا ونحبه) في إشارة عميقة الدلالة إلي علاقة المسلم بالكون, تلك العلاقة التي لا تقف عند حد الحفاظ عليه فحسب, بل تتعدي ذلك إلي' العلاقة الوجدانية' معه, وكيف لا.. وهذا الكون يسجد لله تعالي, ويسبح له, ويخشع لجلاله, ويجثو لعظمته؟؟. ثم أقول: إن الشرق الأقصي- رغم ما يحفل به من مشكلات السياسة وأعاصيرها الهوجاء: لا يزال مسكونا بجوانب ثرية من العمق الروحي, تجعله أدني إلي مثالية القيم الخلقية والوجدانية الرفيعة, تلك التي يمكن إذا ما اقترنت بقيم الإسلام العليا أن تسهم في تشييد عالم رحب الآفاق, تجد فيه البشرية المعذبة: واحة للسكينة ومرفأ للأمن, وملاذا للسلام.