طوال رحلة العمر في الخارجية المصرية وما بعدها من سنوات في المجتمع المدني.. عرفت ماهر زميلا وصديقا.. عرفته ونحن في مقتبل الشباب عندما عملنا معا بمكتب وزير الخارجية محمود رياض.. في فترة حافلة في تاريخ الدبلوماسية المصرية في أواسط الستينيات.. كانت مصر هي عماد حركة التحرر الوطني في العالم العربي وإفريقيا وأحد المؤسسين الكبار لحركة عدم الانحياز.. وكان مكتب وزير الخارجية يعمل كخلية نحل برئاسة محمد شكري ومحمد رياض.. وعمل بهذا المكتب من أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية مثل ماهر وعمرو موسي ومن أصبح وزير دولة للشئون الخارجية مثل محمد رياض.. أما ماهر فكان هو المساعد الرئيسي لمدير المكتب محمد شكري الذي ربطته به صلة وثيقة منذ عمل معه في قنصلية مصر في زيورخ.. وكان من حسن حظ ماهر أنه ترك المكتب قبل حرب67, وذهب للعمل مع السفير محمد إبراهيم كامل سفير مصر في زائير.. وبالتالي فهو لم يشهد معنا حرب67 الكارثية. أما المحطة الثانية المهمة في مسيرة ماهر فكانت عندما عمل مع المرحوم حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات للأمن القومي في السنوات الأولي من السبعينيات, ليكون واحدا من هذه المجموعة الممتازة التي تكون منها مكتب حافظ إسماعيل, الذي تولي مسئولية كبيرة في الإعداد لحرب أكتوبر, ومن يقرأ المقالات المهمة التي ينشرها في هذه الأيام وزير الخارجية أحمد أبو الغيط سيجد أسم ماهر أكثر الأسماء ترددا, وسيستطيع أن يري بصر ماهر الثاقب في العديد من المناسبات, منها علي سبيل المثال ما اقترحه علي حافظ إسماعيل من أن يكون الإعلان في الإذاعة والتليفزيون عن قيام القوات المصرية بالتحرك يوم6 أكتوبر في نفس الوقت الذي تتحرك فيه هذه القوات بالفعل أي الساعة الثانية بعد الظهر, وليس قبل ذلك بنصف ساعة, كما كان مخططا من قبل, وذلك حتي لا تحصل إسرائيل علي نصف ساعة قبل بدء الهجوم, وتقبل حافظ إسماعيل لهذا الاقتراح علي الفور, والواقع أن مشوار ماهر في الخارجية لا يكاد يضاهيه مشوار آخر في تعدد المناصب التي شغلها.. فهو قد عمل في إفريقيا كما ذكرت آنفا كما عمل في أوروبا في زيورخ بسويسرا, وباريس كنائب للسفير كما كان سفيرا في البرتغال وفي بروكسل ولدي الاتحاد الأوروبي, ثم في موسكو, ثم في أمريكا بعد ذلك حيث خلفني في سفارة مصر في واشنطن.. ليصبح بعدها بعامين وزيرا للخارجية.. لثلاثة أعوام.. طوال هذه السنين كان ماهر هو ذلك الدبلوماسي الذكي القادر علي سبر أغوار الأحداث والشخصيات, والناصح الأمين الذي يعتمد عليه رؤساؤه.. لم يكن ذكيا فقط, ولكنه كان المثقف القارئ بنهم لما يصدر في الخارج والداخل من كتب ومؤلفات باللغات الثلاث التي أتقنها علي نفس المستوي.. العربية والإنجليزية والفرنسية التي كانت لغة دراسته في المرحلة الثانوية قبل كلية الحقوق التي تخرج فيها عام1956 إلا أنه إلي جانب كونه قارئا ممتازا فقد كان أيضا محبا للفن.. ومرتادا للمسرح والأوبرا والمعارض الفنية. كانت المحطة الثانية التي عملنا فيها معا بعد مكتب وزير الخارجية هي تلك الفترة التي شغل فيها منصب مدير مكتب وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل بينما كنت مديرا للتخطيط السياسي وعضوا في مجموعة العمل التي تشكلت في وزارة الخارجية بعد زيارة الرئيس السادات للقدس.. والتي استقال بسببها كل من إسماعيل فهمي وزير الخارجية ومحمد رياض وزير الدولة للشئون الخارجية. جاء محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية أو بالأحري وجد نفسه في منصب لم يكن يسعي إليه ولم يشكل في يوم من الأيام جزءا من طموحاته.. فلقد عين وزيرا للخارجية دون أن يستشار ولم يعلم بتعيينه في المنصب إلا بعد إذاعة النبأ.. وكان أول ما فعله أن طلب من ماهر موضع ثقته أن يكون مديرا لمكتبه ومستشاره المقرب, وقام ماهر بهذا الدور باقتدار كبير وأمانة مهنية وخلفية عالية.. كانت فترة الأشهر التسعة التي قضاها محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية فترة حافلة وقلقة وكان ماهر بمثابة صمام الأمان في كثير من التوترات التي صادفت وزير الخارجية الجديد, وهو يواجه صلف وعجرفة بيجين وديان وغيرهما من المفاوضين الإسرائيليين, وكانت تلك هي الفترة التي شهدت المواجهة المعروفة بين بيجين وكامل في حفل العشاء الشهير في القدس في ديسمبر1977, ثم فترة الأيام الثلاثة عشر التي قضيناها في كامب ديفيد, وانتهت باستقالة محمد إبراهيم كامل في الأيام الختامية من المؤتمر, وقد كان دور ماهر إلي جانب الوزير كامل دورا مهنيا وإنسانيا عاليا.. هناك أيضا ثلاث حقب مهمة أخري في مشوار ماهر الدبلوماسي.. أولاها تلك الفترة التي عمل فيها سفيرا في موسكو وشهد فيها تداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة ثم تفكك الاتحاد السوفيتي واختفائه من الوجود, ثم فترة السنوات السبع التي عمل فيها سفيرا في واشنطن وكانت أغلبها أثناء رئاسة الرئيس كلينتون التي انتهت بفشل مؤتمر كامب ديفيد الثاني.. أما الحقبة الثالثة وربما الأهم فهي تلك الأعوام الثلاثة التي عمل فيها وزيرا للخارجية ما بين2001 إلي2004 والتي تعامل فيها مع إدارة بوش الصغير وحروبه الحمقاء.. في تلك الفترة التي أعقبت تركه لمنصب وزير الخارجية توثقت بيننا الصلة ربما أكثر من أي وقت مضي, ولم أره في حياتي أسعد وأكثر تصالحا مع نفسه مثلما رأيته في هذه الأيام والأعوام, التي نشط فيها في المجتمع المدني.. فكان مساهما رئيسيا في لقاءات المجلس المصري للشئون الخارجية. لقد تألق ماهر في كل من المناصب العديدة التي شغلها وكان رحيله المفاجئ صادما للأهل والأصدقاء والزملاء وللمجتمع.. رحل وهو ملء السمع والبصر.. كان رحيلا قبل الغروب...