يعاني العالم العربي اليوم من انحدار ملموس في القيم الخلقية أو المبادئ التي جبل عليها المرء وكانت المشكلة منذ سنوات قليلة تتعلق بالمظهر والشكل وطريقة الملبس والأكل والحديث. إلا أن الأمر تطرق إلي أبعد من ذلك بحيث تم اختراق مضمون القيم والمبادئ. لهذا فقد أصبحت الأزمة الخلقية علي مستوي الشكل والمضمون, ولعل هناك عدة عوامل قد سببت تلك الأزمة التي أصبحت تشكل خطورة حقيقية علي الهوية الدينية والثقافية للعالم العربي. لعل العامل الأول هو ضعف الوازع الديني نتيجة لغياب مؤسسات التربية الدينية بدءا بالأسرة والمسجد الذي أصبح يتردد عليه كبار السن لتأدية الصلاة وسماع الدروس الدينية, أما فئة الشباب الذين يقع عليهم عبء تقدم المجتمع والسير به إلي الأمام فنجد أغلبهم لايؤدي الفروض الأساسية الواجبة عليه, ومع أن هناك الكثير من الأسر في الوقت الحالي تعمل علي ارسال أبنائها في أوقات الإجازات لحفظ القرآن الكريم وسماع الدروس الدينية في المسجد, إلا أن فئة الشباب الذي يؤثر ويساهم في حركة التنمية والتقدم داخل المجتمع لاينهل من تلك التعاليم الدينية والقيم الخلقية التي ستساعده بلا ريب في أداء واجبه القومي علي أكمل وجه, وهذا الأمر يفسر الرشوة والمحسوبية والكذب والنفاق والخيانة وارتكاب أبشع الجرائم الخلقية من أجل الحفاظ علي العمل بكل السبل غير المشروعة, حيث إن غياب الوازع الديني يعني موت الضمير. والغريب في الأمر أن المرء يدرك كل هذه الرذائل ويعرف أنها ستضر به وبأسرته وعمله علي المدي البعيد ويخسر ماهو أهم من ذلك علاقته بربه ودينه ومبادئه ومع كل هذا يقدم عليها هذا لا لشيء إلا لموت الضمير الذي يعدل بالمرء عن المعاصي ويرجع عن ممارسة الأذي لنفسه ولغيره, وهذا ما أنزله الله في غلاظ القلوب وموتي الضمير, من قوله:( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) سورة البقرة الآية(10),( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) سورة الزمر الآية(22) أما العامل الثاني فهو غيبة العمل الجماعي والضمير الجمعي, فلماذا تدهورت القيم؟ لأن الوحدة بين الأفراد قد تفتتت وضاعت نتيجة لغياب قيمة العمل الجماعي, فقد شيدت الحضارة الإسلامية من خلال العمل الجماعي والضمير الجمعي الذي يشجع علي الإخاء والمساواة والتقوي والفضيلة وأداء الواجب الديني في ميقاته وأداء العمل علي أكمل وجه وفي ذلك يقول الرحمن( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) سورة آل عمران آية(103). والآن ماشكل العمل الجماعي في المجتمع العربي؟ يقوم علي المصلحة والأهواء الشخصية والمحسوبية فلايستند إلي ذوي الخبرة والكفاءة بقدر مايستند إلي من يسمع وينصت ويفعل ما يريد قائد المجموعة, ومن ثم يتشخصن كل أعضاء الفريق في شخص قائد المجموعة الذي قد اختير لسبب أو لآخر كما اختار هو أعضاء فريقه دون خبرة أو دراية حقيقية بقيمة العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بناء علي الكفاءة والخبرة وليس الرغبة الشخصية والأهواء التي تسيء للعمل وتفضي إلي انهياره بلا شك, وهذا هو سبب فشل الكثير من الدول العربية وحدوث النزاعات وتراجع البعض ومحاولة استبعاد آخرين لكي يبرز هؤلاء وهكذا عبث لاينتهي وقيم تنحدر مع ممارسات غير مسئولة وتغيب فيها الشفافية والمصداقية الحقيقية. أما العامل الثالث والأخير فهو غيبة المحاسبية, فقد يحاسب المرء علي السرقة أو علي القتل وغيرها من الجرائم المشاهدة, أما الجرائم الخلقية والأمراض الخلقية كالكذب ومحاولة قتل الآخر معنويا والتهميش لإعلاء المصلحة الشخصية, ولعب أدوار مع عدم الكفاءة ومحاولة طمس الآخرين لإعلاء صوت واحد, وعدم تقدير العمل وغياب الحقيقة وموتها, مع كل تلك الأمراض الخلقية التي تفضي إلي انهيار مجتمعات بأكملها إلا أنها كلها أمور متروكة وغير محاسب عليها لأن من يفعل هذا هو من ضمن دائرة أهل الثقة الذين لاعقاب ولا لوم عليهم, كيف هذا؟! كل من علي وجه الأرض يخطئ ويصيب وبالتالي المحاسبية مطلوبة دائما حتي إن لم تبدأ بنفسك وتضع عليها رقيبا يحاسبك دوما فلا تخجل من أن يحاسبك الآخرون فهذا حقهم عليك طالما وليت عليهم تأمر وتنهي, تلك القيم الخلقية تتلاشي في الآونة الأخيرة وأصبح الجميع يرضخ ويمتثل دون محاسبية وهذا لايجنح بنا إلي تقدم ملموس لأننا نجامل بعضنا ونتزين وحتي أمام أنفسنا ونقنع أنفسنا أننا الأحسن والأصلح دوما! وعلي الرغم من أن الكثير من الحكومات العربية بدأت تطبق مبدأ المحاسبية علي كثير من المسئولين في السنوات الخمس الأخيرة إلا أن الأمر بحاجة إلي متابعة واستمرارية وتدوير مستمر للقيادة لهؤلاء المسئولين الذين قد يعبثون بمصائر أشخاص ولايحاسبون علي ذلك. هذه بعض وليس كل أسباب تدهور وانهيار القيم الخلقية في المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة, إلا أنه ما العلاج وكيف نرقي بالأمة العربية إلي القيم الخلقية التي تحلت بها علي مر السنين؟ الإجابة هي العمل ولكن العمل في إطار منهج الله, بمعني الاخلاص والتفاني في العمل وأداء الواجب الوطني هذا حق علي كل مسلم ومسلمة تربوا فيه وينتمون إليه. كما أن من حقهم أن يجدوا تقديرا من المجتمع, ومساعدات ومشاركة وتعاونا وردع ومحاسبة من يحاول تشويه صورة المجتمع ويطمسهم من أجل الظهور وتحقيق المصالح الشخصية. فالمسئولية المشتركة بين الدولة والمجتمع المدني أساس لإعلاء القيم الخلقية داخل المجتمع لأن وحدة وتناغم الطرفين تقضي علي أي عبث أو فساد يمكن أن يحدث من قبل أفراد أو جماعات تعلي المصلحة والأهواء الشخصية علي حساب المجموع. ولايسعنا في النهاية إلا أن نردد قوله تعالي:( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) سورة النساء الآية(58). [email protected]