كلما تعالت نبرة التأييد لإقامة نظام عربي قوي, شعرنا نحن العروبيي النزعة والعقيدة, بأننا مازلنا في مرحلة الوهن والضعف العربي فالنظام العربي قد بدأت جذوره تنبت لإيجاد صيغة تقارب بين المواطنة العربية بعيدا عن المدلول العقائدي الديني لذلك لم يكن من المستغرب أن يقود حركة القومية العربية إخوان لنا من المسيحيين, وأن مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي, كان ميشيل عفلق, وأزعم أن الرئيس جمال عبدالناصر قد استمد من عقيدة البعث السياسية الكثير من الأفكار التي بني علي أساسها النظام السياسي القومي المصري. ولا يمكن لمنصف إلا أن يؤكد أن اقتناع الزعيم جمال عبدالناصر بالقومية العربية كرباط استراتيجي عروبي, لم يكن من قبيل المتاجرة السياسية, لكنه كان من منظور استراتيجي وجيواستراتيجي واضح المعالم. فالقطبية الثنائية, وحركة التحرر الوطني, سواء العربي أو الإفريقي, وبزوغ نجم الصين الشعبية ويوجوسلافيا والهند ومصر وإندونيسيا في عالم الحياد الإيجابي وحركة عدم الانحياز, كانت بوادر تحرك سياسي عالمي يهدف إلي إيجاد مناخ دولي جديد يحرك المياه الراكدة لمنظمة الأممالمتحدة, ويجعل لأصوات العديد من الدول وزنا في صياغة القرارات الدولية. من هنا بزوغ دور زعامة الرئيس جمال عبدالناصر في تحريك دفة العروبة, والاتجاه نحو بوصلة جعل القومية العربية هدفا لرفع قامة الدول العربية في إطارها الإقليمي والدولي, لمواجهة حركة الصهيونية العالمية التي دعمتها وبشدة الولاياتالمتحدةالأمريكية, والمملكة المتحدة, وناصرت خطاها في احتواء المد العربي الناصري بعض من الدول الغربية. إلا أن ما غاب عن حركة القومية العربية في مرحلة الزهو, أن تسعي إلي تحويل هذه الحركة من هدفها السياسي والعقائدي إلي مضمون مؤسسي يضمن استمرار قوة الدفع الذي حصلت عليه في هذه المرحلة الذهبية من مجرد عقيدة وفكرة إلي نظام عربي راسخ الأركان, واقتناعي الشخصي بأن المناخ, آنذاك, كان يسمح بتحقيق هذا الهدف, وتحويله من مجرد أمل إلي عقيدة إلي نظام سياسي راسخ الأركان, فقد كان الدفع العربي, والزعامات العربية, والمناخ السياسي العالمي, والصلف الأمريكي, وسيطرة الصهيونية الدولية علي مسرح السياسة الأمريكية, وانتشار المد الإسرائيلي الإقليمي في المنطقة العربية, وتنامي قوة الوضع الجيواستراتيجي العربي بعد تزايد الوزن الاستراتيجي للنفط العربي, وإعطاء الدفعة لآلية القمم العربية الاعتيادية والاستثنائية, واستثمار طاقة مصر العلمية والثقافية والفنية والأكاديمية كقوة ناعمة تربط بين جذور العروبة في الكثير من الدول العربية. كل هذه العوامل كانت تسمح بتأسيس منظمة عربية فاعلة تقود حركة الفكر القومي العربي. من هنا فقد غاب عن المخطط العروبي, وبالذات المصري, أن يحول العقيدة العربية, أو ما كان يطلق عليه القومية العربية آنذاك, إلي نظام عروبي حقيقي, وظل النظام العربي يستند علي كيان هش, يعتمد علي ميثاق جامعة الدول العربية, الذي نشأ في ظروف تحول دول جعله نواة لكيان قوي يقوم علي أسس تقبل أن يتحول إلي كيان عروبي راسخ. وانتهي العصر الناصري لتبدأ مرحلة الشرق أوسطية, والتعاون الإقليمي الموسع الذي يتعدي الإطار العربي, وانفرطت قيود المقاطعة العربية علي إسرائيل, وحصارها بسياج عربي, ليصبح ما كان يعتبر خطيئة من الرئيس التونسي بورقيبة بالتلويح بالمحادثات المباشرة مع إسرائيل هو نمط التعامل في هذه المرحلة, وابتعدت مصر عن جامعة الدول العربية قرابة السنوات العشر, وتمت قصقصة أجنحة الدولة المؤهلة لزعامة التيار العروبي, وهي العراق, وشغلها بحرب تكتيكية مع إيران هدفها استنزاف قوة الدولتين, والسعي لإنشاء كيان سياسي خليجي منفصل عن جامعة الدول العربية, كما توجهت الهامات لإنشاء ما يسمي الاتحاد المغاربي, ولم يفكر أحد في إقامة ما يسمي اتحاد المشرق العربي, الذي يعد في منظورنا أقوي كيان سياسي واستراتيجي عربي, الذي يضم في جنباته ما كان يطلق عليه الهلال الخصيب الذي يحاصر وبشدة وفاعلية, وبنمط جيواستراتيجي إسرائيل, ويصلح لتكوين نواة لاتحاد دول عربية حقيقي يضم العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين ومصر, ليجمع بين الوزن السياسي والاقتصادي والجيواستراتيجي والقيادي والزعامي وخلافه من مكونات اتحاد عروبي راسخ الأركان. ولكم هزتني المواجع وأنا أقرأ عن الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب الذي عقد في السادس عشر من هذا الشهر في القاهرة, والذي توقف أمام مقترحات تغيير اسم الجامعة العربية إلي اتحاد الدول العربية, أو الاتحاد العربي, وتغيير اسم القمة العربية لتصبح المجلس الأعلي للاتحاد, واقتراح أن يعقد اجتماعان كل عام أحدهما يعقد في دولة المقر وليوم واحد, ودون رسميات, ويخصص للنظر في القضايا ذات البعد الاستراتيجي أو المهم, والآخر, وهو الاجتماع السنوي, ويعقد في الدولة المضيفة, أو دولة المقر. وأتساءل: هل يمكن لاجتماع يخصص للقضايا الاستراتيجية والمهمة والعاجلة أن يستمر ليوم واحد؟! أما عن الجهاز التشريعي, وهو البرلمان العربي, فلم تبحث مسألة عضوية الدولة فيه عندما يتحول إلي برلمان دائم, ولم تنجح فكرة إنشاء محكمة عدل عربية, وتفضيل اللجوء إلي التحكيم الدولي ومحكمة العدل الدولية, أما المسائل الاقتصادية والمالية فمازالت في مرحلة الاستشراف الفرضي والنظري, والتساؤل هو: هل نحتاج لبنك مركزي عربي, في حين أن التوجه نحو عملة خليجية موحدة يسير علي قدم وساق. وأتساءل وبصدق وحميمية واخوة: هل يرغب الإخوة العرب في التصدق علينا بمجرد عباءة مزركشة تخفي ما تحتها من لباس بال, أم أن القناعة العربية قد اعتمدت علي مقولة: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان, وأن الإنجاز الوحيد الذي يمكن تحقيقه هو الإبقاء علي جامعة الدول العربية كمجرد برواز يضم أسماء الدول العربية حتي لا ينفرط عقد العروبة, ولا يمكن عقده بعد ذلك, وهنا تعود العقيدة العربية إلي مجرد آمال بحكم الواقع المرير الذي نعيشه.. ويصبح من الأوفق فعليا أن نسمي جامعة الدول العربية منتدي العروبة لينسجم مع واقع الحال. المزيد من مقالات محمود شكري