حتي وقت قريب بدت الأمور في باكستان وكأنها تسير في اتجاه تحجيم الدور السياسي للعسكر, خاصة بعد إجبار الرئيس برفيز مشرف علي التنازل عن منصب القائد العام للجيش في نوفمبر2007 والفصل بين قيادة الدولة وقيادة المؤسسة العسكرية ثم إجباره علي الاستقالة في أغسطس2008, وما تبع ذلك من تولي القوي المدنية السلطة بقيادة حزب الشعب, وسيطرة الأخيرة علي القرارات العسكرية, وتعميق عملية التحول تلك من خلال تدشين عملية لإعادة بناء العلاقة بين رئيس الدولة والحكومة, وتوسيع صلاحيات رئيس الحكومة علي حساب رئيس الدولة, بهدف العودة إلي مرحلة ما قبل انقلاب عام1999 وإلغاء التعديل الدستوري السابع عشر الذي أجري في عهد برفيز مشرف في ديسمبر2003, وهو ما عبر عنه التعديل الدستوري الثامن عشر( أبريل2010) الذي تم بموجبه نقل العديد من صلاحيات رئيس الدولة إلي رئيس الحكومة ونزع بعض السلطات من رئيس الدولة خاصة سلطة حل البرلمان وإقالة الحكومة وتعيين رئيس أركان الجيش. ورغم أن الدور السياسي التاريخي للجيش يعود إلي عوامل هيكلية تتعلق بظروف نشأة الدولة الباكستانية, والبيئة الإقليمية الصراعية, فقد أدت هذه الإجراءات إلي شيوع موجة من التفاؤل بإمكانية تحجيم الدور السياسي للعسكر لصالح القوي المدنية, خاصة أن مشروع إحياء دور القوي المدنية قد حظي بدعم أمريكي واضح دشنته عودة بينظير بوتو إلي باكستان في ديسمبر2007. لكن يبدو أن الواقع الباكستاني من التعقيد بحيث لا يمكن القضاء علي الدور السياسي التاريخي للجيش بسهولة. واللافت للنظر أن مصدر تهديد انهيار المعادلة السياسية الراهنة بين المدنيين والعسكر لا يأتي هذه المرة بفعل الاختلاف حول أوليات العمل العسكري للجيش, أو الخلاف حول الصلاحيات السياسية والمدنية لكل طرف أو حول ترتيب أولويات التهديدات الداخلية والخارجية للدولة والمجتمع, بقدر ما يعود إلي ما كشفت عنه كارثة الفيضانات الراهنة من قدرات كل منهما, وحدود اعتماد المجتمع الباكستاني علي الحكومة والمؤسسات المدنية لمواجهة هذه الكارثة وتداعياتها. وعلي الرغم من أن الكارثة في حد ذاتها لا تنهض مبررا كافيا لعودة الجيش إلي السلطة مرة أخري, فالكثير من دول العالم تشهد وقوع مثل هذه الكوارث دون أن يوفر ذلك مبررا أو غطاء لعودة العسكر إلي السلطة أو توسيع الصلاحيات السياسية والمدنية للجيش, إلا أن المعادلة السياسية الراهنة في باكستان تتسم, من ناحية, بالضعف والتوازنات الدقيقة, وتتسم من ناحية ثانية, باعتمادها تأسيسا واستمرارا- علي ضمانات خارجية, أبرزها حرص الولاياتالمتحدة علي بقاء الجيش بعيدا عن الواجهة وإعطاء الفرصة للقوي المدنية لملء الفراغ الذي تسبب فيه نظام مشرف عندما أفسح المجال للقوي الدينية للتمدد علي حساب المعارضة المدنية العلمانية, الأمر الذي يجعل هذه المعادلة أكثر حساسية لحدوث أية تغيرات في أولويات ومصالح الأطراف الخارجية. من ناحية أخري كشفت كارثة الفيضانات بشكل واضح محدودية أداء وكفاءة الحكومة والأجهزة المدنية في التعامل مع الكارثة وتداعياتها. وفي المقابل كان دور الجيش أكثر وضوحا وحضورا, ليس فقط من حيث التوقيت ورد الفعل السريع ولكن من حيث القدرة علي الانتشار والوصول بجهود الإغاثة إلي مختلف الأقاليم. ورغم أن الاعتماد علي الجيش كفاعل رئيسي في جهود الإغاثة كان أمرا منطقيا بالنظر إلي كونه المالك الوحيد للأدوات والمعدات الملائمة للتعامل مع هذا النوع من الكوارث خاصة طائرات الهليوكوبتر- إلا أنه كان واضحا أيضا خلال الأزمة وجود نوع من التقصير السياسي للحكومة والأجهزة المدنية علي نحو بدا الجيش وكأنه يتحرك بمفرده وبمعزل عن الجناح المدني, وهو ما انعكس في الأولوية المتأخرة نسبيا التي أعطتها أعلي قيادة سياسية مدنية في البلاد, ممثلة في رئيس الدولة, الذي فضل زيارة المملكة المتحدة لمعالجة قضية خارجية تداعيات تصريحات رئيس الوزراء البريطاني أثناء زيارته للهند في نهاية يوليو الماضي علي مواجهة كارثة الفيضانات, وعدم تصرفه وفق توقعات الشارع الباكستاني في ذلك التوقيت, والذي توقع قطع زرداري لزيارته وعودته للبلاد لمواجهة الكارثة. كما كشفت الكارثة بشكل واضح عن ضعف القوي المدنية بشكل عام, سواء البيروقراطية, أو مؤسسات المجتمع المدني, فضلا عن غياب الأجهزة المعنية بإدارة الأزمات, كل ذلك رغم أن كارثة الفيضانات ليست أول كارثة طبيعية تتعرض لها باكستان, فقد سبقها العديد من الكوارث, كارن أبرزها إعصار1970, وزلزال عام2005. هذه الفجوة الواضحة بين أداء الجيش من ناحية, والحكومة والقوي المدنية من ناحية أخري, وبين أداء الحكومة من ناحية وتوقعات الشارع الباكستاني من ناحية أخري, ستؤدي بلا شك إلي تحويل الأنظار إلي الجيش باعتباره المنقذ الحقيقي وقت الأزمات, وإلي إعادة النظر في تجربة الحكومات المدنية بشكل عام. وقد ينتهي هذا الوضع بحدوث انقلاب عسكري واضطرار الجيش إلي إنهاء المعادلة السياسية القائمة مع النخبة المدنية, خاصة في حالة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد, في ظل التوقعات القائمة بتراجع حاد في معدل النمو الاقتصادي لينخفض إلي أقل من2%, وارتفاع معدل البطالة وحدوث أزمة غذاء في ضوء الأضرار الشديدة التي لحقت بقطاع الزراعة, وارتفاع قيمة العجز التجاري نتيجة الانخفاض المتوقع في حجم الصادرات الزراعية, وتردد الدول المانحة في تقديم المساعدات المالية لباكستان وإدارتها عبر النخبة المدنية القائمة. ولا يقتصر القبول برجوع الجيش بما في ذلك عبر الانقلاب علي الداخل الباكستاني فقط, ولكن ربما يجد قبولا أيضا من جانب الولاياتالمتحدة والغرب في ظل حالة التوتر القائمة مع النخبة المدنية الحاكمة علي خلفية ما يوصف بدور باكستاني مزدوج في أفغانستان. كما أن تراجع التحفظ الداخلي علي عودة الجيش سوف يرفع بدوره الحرج عن الولاياتالمتحدة لتشجيع هذا السيناريو. أضف إلي ذلك أن الغرب قد يفضل الاعتماد علي الجيش خلال السنوات الخمس القادمة لإدارة عملية إعادة الإعمار بالنظر إلي ضعف مصداقية ونزاهة النخبة المدنية. وقد شهدت الأسابيع الأخيرة بعض التطورات المهمة التي يمكن النظر إليها كمؤشرات أولية علي إمكانية حدوث هذا السيناريو. كان أبرز هذه المؤشرات إعلان الرئيس السابق برفيز مشرف العودة مرة أخري إلي الحياة السياسية في باكستان, وعزمه تأسيس حزب جديد في أكتوبر المقبل تحت اسم الرابطة الإسلامية لكل باكستان, تمييز له عن حزب الرابطة الإسلامية- جناح نواز شريف, والرابطة الإسلامية- جناح قائد أعظم الذي أسسه مشرف نفسه كواجهة حزبية ومدنية لنظامه العسكري خلال فترات حكمه. علي الرغم من أن مشرف ذاته لا يحظي بالدعم الذي يضمن له, أو لحزبه الجديد, فوزا مريحا في الانتخابات البرلمانية القادمة2013 بشكل يسمح له بتشكيل حكومة أو رئاسة الدولة, وهو بالتأكيد يدرك ذلك بشكل واضح, إلا أنه يراهن علي عوامل أخري أكثر أهمية في المرحلة الراهنة. يتعلق العامل الأول بتحول الأنظار مرة أخري إلي العسكر, وهي فرصة يمكن أن تجعل منه بديلا وسطا بين السيطرة الصريحة والمباشرة للجيش علي السلطة من خلال الانقلاب العسكري, خاصة بعد أن يكون قد قضي خمس سنوات خارج السلطة والمؤسسة العسكرية. العامل الثاني يتعلق بعلاقته بالقائد الحالي للمؤسسة العسكرية, الجنرال أشفق كياني, وهو شخص عرف عنه عزوفه عن تولي منصب سياسي مدني, وعدم تفضيله لفكرة الانقلاب العسكري, فضلا عن علاقته الجيدة ببرفيز مشرف. بمعني آخر, ربما يمثل مشرف هنا البديل العملي الأفضل من وجهة نظر الجيش للعودة مرة أخري إلي السلطة من خلال شخصية عسكرية ذات واجهة مدنية. العامل الثالث يتعلق بمراهنة مشرف علي مراجعة الولاياتالمتحدة للمشروع المدني برمته في باكستان. فكما كشفت كارثة الفيضانات بالنسبة للمجتمع الباكستاني حدود الاعتماد علي القوي المدنية في إدارة هذا النوع من الكوارث, فقد كشفت هذه الكارثة أيضا, وخبرة العامين الأخيرين عن حدود اعتماد الولاياتالمتحدة علي هذه القوي في مواجهة صعود طالبان والقاعدة في أفغانستانوباكستان. ورغم أن فترة حكم مشرف لم تخل من خلاف مع الولاياتالمتحدة فإن عودته مرة أخري للسلطة في حالة تحقق ذلك- سوف يسبقها بالتأكيد صفقة كبيرة مع الولاياتالمتحدة تستند إلي تعهدات واضحة من جانب مشرف والجيش بعدم المساس بالتعديل الدستوري الثامن عشر, أو الالتزامات الباكستانية تجاه الحرب ضد طالبان والقاعدة. لعل ما يؤكد إدراك مشرف لشروط هذه الصفقة المتوقعة ارتباط تصريحاته بخصوص تأسيس حزبه الجديد بتأكيده علي ضرورة استمرار الحرب الأمريكية ضد طالبان والقاعدة, واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان, جنبا إلي جنب مع تأكيده حاجة باكستان إلي الديمقراطية. خلاصة القول إذن أن مشرف قد يمثل بديلا عمليا تتوافق حوله مصالح جميع الأطراف.