ما أعجب تصاريف ذاك الحظ الغبي! لقد كان محمود المهدي مثالا علي النظافة لا تفلت من مقشته أو فوطته الزفرة غبارة واحدة. مع ذلك زج به في موقف حرج ومهين بسبب النظافة! كان ذلك في يوم لا أنساه مطلقا من العام السابع والأربعين بعد التسعمائة والألف. في ضحي ذلك اليوم بدأ حضرة الناظر الشيخ حسن الزيات يمر علي الفصول ليطمئن علي سلامة النظافة والانضباط ويجري مراجعة علي التلاميذ أشبه بال بروفة لما سوف يحدث أمام المفتش, يوجه بعض أسئلة في المقرر تشبه الأسئلة التي قد يسألها المفتش, وبمساعدة المعلم يقوم باختيار التلاميذ النجباء وتصحيح اجاباتهم وصولا الي الإجابة النموذجية التي يجب أن نستوعبها جميعا. ولكن, وقبل دقائق معدودة من دخول الناظر علينا كانت ريح خماسينية هوجاء قد أحدثت في تراب أرض الخلاء ما كنا نسميه بفسوة العفريت, ولما كانت شبابيك الفصل المطلة علي الخلاء مفتوحة الدرف قليلا علي شكل شمسية مقببة من الخارج فلقد نفذت هبات من التراب الناعم غمرت مكتب المعلم وصف التخت المتاخم للشبابيك ووصلت الي بعض التخت البعيدة. ومثلما يفعل المفتش دائما دخل الناظر متجها مباشرة الي مكتب المعلم للقبض علي دفتر التحضير الذي يدون فيه المعلم خطة درس الحصة وملخصه وعناصره المهمة وطريقة شرحه التي سيطبقها, ليتأكد المفتش بادئ ذي بدء من جدية المعلمين وسلامة منهجيتهم لهذا يريد الناظر اكتشاف الحوار قبل أن يكتشفه المفتش ليكون أمام المعلم بعض الوقت لتدارك أي إهمال ولو بسيط غير جوهري. غير أنه صدم باكتشاف التراب ألد أعدائه في الحياة. أخرج منديله وجعل يمسح وجهه ويديه وشفتيه في اشمئزاز. بكل هدوء مشي نحو باب الفصل ثم وقف علي العتبة مصفقا بيديه كأنه يدق جرس إنذار مرعبا, جرت العادة أن المعلم حين يطلب الفراش لأمر من الأمور يقف بالباب صائحا بمزيج من الغطرسة والعجرفة: يا محمود, أما الناظر الشيخ حسن الزيات فإنه يصفق فحسب, ومحمود المهدي يعرف تصفيقته هذه بإيقاعاتها المختلفة إن كانت هامسة يعني أن يذهب اليه في تؤدة علي مهل, أو زاعقة فيسرع في خطوه أو صارخة الصوت غاضبة فيترك ما في يده ويهرول اليه قبل أن يتراوح صوت التصفيقة في فضاء الفناء.في لمح بالبصر صار محمود المهدي واقفا أمام الناظر مرتجفا محمر الوجه منتفخ الخدين من فرط التوجس, وقد انزاحت طاقيته الصوف الهرمية الشكل الي الوراء عن جبهة مدورة كالبرتقالة وقف متجمدا مرفوع الجبين, فبدا كأحد نبلاء الفراعنة الذين نري صورهم منقوشة علي الجدران في كتاب التاريخ, نظراته الواجفة اصطدمت بوجه الناظر فهاله منظره قال الناظر بهدوء مفتعل: الفصل ده اتكنس! انسخط وجه محمود المهدي صادقا في اللون بدلا ملامح كحبة الطماطم, هز رأسه كمن يقرر بديهة: طبعا يا حضرة الناظر اتكنس! قال الناظر في تبكيت وتهكم: متأكد! بصوته الخفيض ؟الحيسي ردد محمود المهدي: ويمين المصحف كنسته ومسحت التخت بالفوطة الزفرة هي والشبابيك بلهجة ممطوطة ساخرة قال الناظر: وكمان الشبابيك طب بص كده شوف الشبابيك وشوف التخت! ومد أصابعه بعصبية ومسح بها علي أقرب تختة ثم قربها من وجه محمود المهدي يكاد يخزق بها عينيه: لسة مصر علي إنك كنسته؟! وطربة أبويا كنسته! الفصل ده ما اتكنسش! كنسته ياحضرة الناظر! كصرخة قط شرس في وجه قط غريب جاء يتطفل علي منطقة نفوذه صرخ الناظر صرخة ذات مخالب: أنا باقول إنه ما اتكنسشي! مغلوب علي أمره همهم محمود المهدي: خلاص ياحضرة الناظر ما اتكنسش ما تكنسش! المؤكد أنه خانه التعبير لعله كان يقصد التعبير عن امتثاله لرأي الناظر إرضاء له. توقعت أنا أن الناظر لابد سيستوعب قصد محمود المهدي من وراء هذه العبارة التي اقتيد إليها رغما عنه فيما بدا لي, غير أننا فوجئنا بذراع حضرة الناظر ترتفع ثم تهوي علي وجه محمود المهدي بصفعة مدوية مفاجئة, أشعرتني بألم حاد في أذني كأنها هوت علي صدغي أنا. حط علي الفصل ذهول ورعب. إزاي ما اتكنسش ما اتكنسش؟! يعني إيه ما اتكنسش ما اتكنسش؟! وقبل أن يطفر الدمع من عيني محمود المهدي عاجله الناظر بصفعة ثانية علي الخد الآخر. مكررا: يعني ايه ما اتكنسش ما اتكنسش كانت هذه أول مرة في حياتي أري فيها رجلا مهيبا يضرب رجلا محترما ويهينه جراء تقصير لم يكن من صفاته علي الإطلاق, وبسبب ذنب أرتكبته ريح هوجاء, من فرط الرعب الذي اعتراني وجدتني أبكي ثم أرفع أصبعي, فصاح بي المعلم السيد افندي جابر ملوحا بالخيزرانة: عايز إيه ياولد؟ وقفت مرتبكا, خفت من الخيزرانة إن لم أنطق, فقلت في وجل: أصل يا أفندي اللي جاب التراب ده فسية العفريت! فنهرني بخشونة: طب اترزع اقعد! ووضع الناظر يده تحت أذنه مستفهما: فسية إيه؟! فوقفت نصف وقفة قائلا: العفريت!. ضحك التلاميذ برغمهم. وإذ تفككت الرهبة بالضحك, قال زميلي عطية ابراهيم شرف: مظبوط ياحضرة الناظر! هي والله فسية العفريت! حملق الناظر في وجه السيد افندي جابر وكلاهما واضح عليه الحرج: وليه يا افندي ما قلتليش من الأول؟! وكان السيد افندي جابر ضخم الجسد عالي الصوت قوي الحنجرة عنيفا عند اللزوم, لكنه غير مندفع, وفي نفس الوقت غير دبلوماسي, فاغتصب ابتسامة ملطفة, إذ يقول بصوته الرنان: ماهو ياحضرة الناظر حضرتك ما.. ما تفاهمتش.. ما اديتش فرصة! أصل الموضوع تطور بسرعة علي كل حال ثم إن دماغي كان في دفتر التحضير اللي حضرتك مسكته عشان تراجعه, خفت أكون نسيت حاجة! فأطرق الناظر وجعل يزوم, كأنه يزن كلمات السيد افندي جابر الذي بدا علي وجهه أنه مثلنا مستاء مما حدث لمحمود المهدي. في تلك اللحظة اعتراني شغف لمعرفة ما سوف يفعله حضرة الناظر بعد أن عرف الحقيقة, واتضح له أن المهدي مظلوم, هل سيعتذر له ويصالحه, وكيف؟ ويبدو أن محمود المهدي كان هو الآخر يترقب ما سوف يحدث وقد ظهرت براءته يبدو كذلك أنه اكتفي بذلك, إلا أن دموعه الحبيسة منذ تلقيه الصفعتين قد تفجرت وتطاير منها رذاذ لامس أنفي إذ إنني بحكم ضعف البصر منذ الصغر كنت أجلس دائما في أول تختة متاخمة لباب الفصل ثم إنه استدار بهدوء والصرف تاركا في اعيننا بوارق من عدوي دموعه الهاطلة. أما حضرة الناطر فقد شملنا بنظرة حادة, ثم قال بلهجة وعظية: اسمعوا يا أولاد! كويس إنكم شهدتم بالحقيقة! ده واجب علي كل إنسان بيعرف ربنا ويتقيه!.. لكن مع الأسف.. وده درس يجب تفهموه. شهادتكم أصبحت بلا قيمة لأنها جاءت متأخرة.. يبقي الدرس اللي نتعلمه مع بعض: إنه كان واجب عليكم تنطقوا بالشهادة من أول ما شفتوني بانده لمحمود المهدي عشان أوبخه قال زميلنا حنا إبراهيم صليب بخفة ظله وصوته الفوضوي الصريح: خفنا أحسن تضربنا يا حضرة الناظر! فهتف الناظر: حتي لو كنت عارف اني حاضربك تقول شهادتك برضه! الشهامة يا أولاد إنك تقول شهادة الحق ومتخافش غير من ربنا سبحانه وتعالي! ثم شوح في وجوهنا في قرف وعصبية: جاتكم داهية في صباحكم اللي زي وشكم! وخرج يتبختر كالمحمل وقد ملأ الهواء المواجه له ما بين طرفي الجبة فانتفخت وضاعفت من حجمه. وعلي الرغم من أن كلامه بهرني فإن شيئا ما فيه أو في أنا.. جعلني لا أصدقه حتي مع اقتناعي بما قال الي اليوم. وحينما حكيت لأبي في سهرة المندرة ما حدث قال: كان الأولي به أن ينصحكم بوجوب الاعتذار عند الغلط وبعدم الاندفاع والمبادرة بالضرب! وقال الشيخ محمد زيدان عسر في سخرية غامضة: ألم يتخل لكم إن القاضي الذي يحكم بالإعدام قبل سماع الشهود يجب إعدامه؟! قلت ببراءة كأنني أدلي بشهادة حق كالتي نصحنا بها حضرة الناظر: لا! وكتاب الله لم يقل شيئا من هذا فضحكوا جميعا ضحكة صاعقة زلزلتني, فاندفعت أجري الي الخلاء الفسيح.