نقابة المحامين تُصعِّد: متابعة دقيقة لإضراب شامل احتجاجًا على الرسوم القضائية الجديدة    حالة من الغضب بين صحفيي محافظة الغربية بعد منعهم من متابعة زيارة مدبولي    إيهاب واصف: صادرات الذهب تسجل 3.2 مليار دولار بالربع الأول من 2025    عاجل- مدبولي يتفقد مشروع إسكان محدودي الدخل بالعجيزي.. من منطقة عشوائية إلى مجتمع عمراني متكامل    وزير الاتصالات يبحث مع نظيره اليابانى التعاون فى مجالات الذكاء الاصطناعى والأمن السيبرانى والخدمات البريدية    رئيس هيئة الدواء يجتمع افتراضيًا مع «تنظيم المهن والخدمات الصحية» بالبحرين    محافظ الفيوم يشهد تسليم صكوك الإطعام والصدقات المقدمة للأسر الأولى بالرعاية    لين جيان: لا جدال في سيادة مصر على قناة السويس    12 شهيدًا في قصف إسرائيلي متواصل على غزة.. ومجاعة خانقة تشتد على المدنيين    التشكيل المتوقع للأهلي أمام المصري البورسعيدي في الدوري    بشرى سارة للزمالك.. أزمة إيقاف القيد في طريقها للحل    شوبير: لا أحد يعلم قرار لجنة التظلمات بشأن أزمة القمة.. والسيناريوهات ثلاثة    ضبط 40.2 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    الأرصاد: موجة حارة تضرب البلاد بسبب تأثرها بكتل هوائية صحراوية    وفاة ربة منزل سقطت من أعلى سلم في الفيوم    «الداخلية» تقرر السماح ل63 مواطنًا مصريًا بالحصول على جنسيات أجنبية    وزير الثقافة: نسعى لوضع أسس علمية ومهنية تضمن محتوى درامي يرتقي بالذوق العام    محافظ القليوبية يشهد توقيع بروتوكول تعاون لإقامة معرض لمؤسسة دار المعارف ببنها    رئيس جامعة أسيوط يترأس لجنة اختيار عميد كلية العلوم بالجامعة    رئيس الوزراء يتفقد مُستشفى محلة مرحوم التخصصي ومشروع تغطية المصرف المواجه لها    فريق طبي مصري ينجح في ترميم فك مريض روسي باستخدام المنظار والميكروسكوب بمستشفى العلمين    محافظ أسيوط: تنظيم فعاليات بمكتبة مصر العامة احتفاءً بذكرى نجيب محفوظ    امتحانات الدبلومات الفنية.. رابط تسجيل استمارة التقدم قبل غلق ملء البيانات    تخفيف الحكم على قاتل والدته بالإسكندرية من الإعدام للسجن المشدد    أبناء محمود عبدالعزيز وبوسي شلبي في مواجهة نارية أمام القضاء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    الولايات المتحدة تعتزم تعيين حاكمًا أمريكيًا للإدارة المؤقتة لقطاع غزة    توريد 51 ألفا و652 طن قمح بكفر الشيخ    قسم الأمراض العصبية والنفسية بجامعة أسيوط ينظم يوما علميا حول مرض الصرع    عاجل- هيئة الدواء المصرية تسحب دواء «Tussinor» من الأسواق    البرلمان الألماني يحيي ذكرى مرور 80 عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية    هجوم بطائرات درون على مستودعات نفطية في ولاية النيل الأبيض بالسودان    مدير مكتبة الإسكندرية يفتتح ندوة المثاقفة والترجمة والتقارب بين الشعوب - صور    لدعم فلسطين.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات الطلاب    جامعة عين شمس تفوز بجائزتين في المهرجان العربي لعلوم الإعلام    سعر جرام الذهب اليوم فى مصر الخميس 8 مايو 2025.. تراجع عيار 21    بعد صعود سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الخميس 8-5-2025 صباحًا للمستهلك    الزمالك يستعيد مصطفى شلبى أمام سيراميكا في الدورى    الكرملين: محادثات بوتين وشي جين بينج في موسكو ستكون مطولة ومتعددة الصيغ    وزير الصحة ونقيب التمريض يبحثان تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    دور المرأة في تعزيز وحماية الأمن والسلم القوميين في ندوة بالعريش    بروشتة نبوية.. كيف نتخلص من العصبية؟.. أمين الفتوى يوضح    البابا تواضروس الثاني يصل التشيك والسفارة المصرية تقيم حفل استقبال رسمي لقداسته    قاض أمريكى يحذر من ترحيل المهاجرين إلى ليبيا.. وترمب ينفى علمه بالخطة    جامعة حلوان الأهلية تفتح باب القبول للعام الجامعي 2025/2026.. المصروفات والتخصصات المتاحة    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    ميدو يكشف موقف الزمالك حال عدم تطبيق عقوبة الأهلي كاملة    إكرامي: عصام الحضري جامد على نفسه.. ومكنش يقدر يقعدني    إطلاق موقع «بوصلة» مشروع تخرج طلاب قسم الإعلام الإلكتروني ب «إعلام جنوب الوادي»    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    أسفر عن إصابة 17 شخصاً.. التفاصيل الكاملة لحادث الطريق الدائري بالسلام    الرابع.. بلاغ بتعرض طفل جديد لهتك عرضه على يد "بعرور كفر الدوار"    كم نقطة يحتاجها الاتحاد للتتويج بلقب الدوري السعودي على حساب الهلال؟    عودة أكرم وغياب الساعي.. قائمة الأهلي لمباراة المصري بالدوري    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع مقاومة الحفاء
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 08 - 2010

التحقت بمدرسة عبدالله نديم في العام الرابع والأربعين بعد التسعمائة والألف‏.‏ وكانت مدرسة بلدتنا هذه قد أنشئت في العام الثالث والعشرين أي عقب ثورة التاسع عشر بأربع سنوات‏ ,‏ ولم تكن تحمل اسم عبدالله نديم آنذاك‏.‏ أما متي حملته ولماذا؟ فذلك ما لم أشأ بحثه ترحيبا باسم عبدالله النديم الذي لم يكن خطيبا للثورة العرابية فحسب‏,‏ بل كان إلي ذلك أحد أهم بناة الروح الوطنية المصرية‏,‏ كمفكر ثوري شخص في عدة شخصيات إيجابية فعالة‏:‏ الصحفي والأدباتي والمناضل السياسي‏,‏ كما أنه رائد فن الزجل بل لعله مؤسس مدرسة الزجل المقاوم المهيج للجماهير المعبر عن الضمير الوطني وعن قاع الحياة في المجتمع المصري الذي لا يعرفه حكامه ولم يعرفوه علي طول الزمان‏.‏ وهي المدرسة الزجلية التي تخرج فيها أكبر عملاقين عظيمين كان لهما أكبر الأثر في المجتمع المصري المعاصر هما بيرم التونسي وبديع خيري‏,‏ ناهيك عن أبي السعود الابياري وأبي بثينة ومحمود رمزي نظيم وحسين شفيق المصري وغيرهم‏.‏
ناظر مدرستنا آنذاك رجل فاضل من حملة شهادة عالمية الأزهر الشريف‏,‏ ظل علي ولائه لزيه الرسمي‏:‏ الجبة والقفطان والعمامة فكان هو المعمم الوحيد بين لفيف من الأفندية المطربشين‏,‏ كنا نصطبح بوجهه كل يوم في طابور الصباح للتفتيش علي نظافة التلاميذ من فرط ندرتها بين عيال من أبناء الفلاحين والأجرية بل والمعدمين لا يملكون سوي الجلباب الذي يستر أجسادهم وبعضهم لا يخلعه عند النوم‏,‏ عذرهم ليس الفقر وحده‏,‏ إنما العذر الأكبر أن المدارس لم تكن في حسبان أهاليهم من الأساس بل هم غير مرحبين بها نظرا لاحتياجهم إلي العيال يساعدونهم في شغل الغيط أو باليومية في أرض الوسية‏,‏ غير ان دعوة طه حسين إلي التعليم الإلزامي باعتباره من حق كل مواطن كالماء والهواء قد تم تنفيذها وأصبح خفراء البلدة يجلبون العيال بقوة القانون إلي المدرسة برضاء أو عدم رضاء أهاليهم‏.‏ عدد قليل من أبناء المياسير الذين ألحقوا عيالهم بالمدرسة الإلزامية تمهيدا للصرف عليهم في مدارس البندر الابتدائية كانوا يملكون أكثر من جلباب نظيف علي الدوام‏,‏ وينتعلون صنادل ماركة باتا كانت شهيرة وأنيقة وثمن الواحد منها تسعة وتسعون قرشا وذاك مبلغ يشتري ثلاث كيلات من القمح تقيم أود عائلة بأكملها لمدة عشرين يوما علي الأقل‏,‏ ويشتغل به أجير رشيد لمدة عشرة أيام في عزيق أو حرث أو تطهير مصارف أو شتل أرز أو جمع قطن في أرض وسية محمد علي باشا الصغير أو أراضي الأعيان‏.‏ أما بقية العيال فحفاة يتراكم علي وجوههم صدأ البؤس وتنضح جلابيبهم بعرق الشقاء الكالح المزمن‏.‏
في عهد الناظر الشيخ حسن الزيات أبلغونا ذات يوم في طابور الصباح عن مشروع تبنته وزارة المعارف العمومية اسمه مشروع مقاومة الحفاء‏,‏ وطلبوا من كل تلميذ قرشا صاغا عشرة مليمات كرسم اشتراك في هذا المشروع‏,‏ من سيدفعه سيحصل علي حذاء‏.‏ رحب الأهالي بفكرة المشروع‏,‏ لكن عدم ثقتهم الأزلية في الحكومة جعلتهم يزمزقون‏.‏ إنهم دائما يزمزقون متي كان في الأمر فلوس مطلوب منهم دفعها‏.‏ ومع ذلك نشط في البلدة رأي عام يؤيد المشروع ويدعو إليه‏,‏ دفع الذين في أيديهم فلوس طوال العام‏,‏ واقترض الذين يفلحون علي ذمة أقرب محصول قادم‏,‏ وباعت بعض النساء تحويشاتهن من بيض الدجاج‏,‏ وباعت أمي بطة كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء‏.‏ وبرغم حزني الشخصي علي البطة فإنني صرت مزهوا بأني دفعت القرش قبل كثيرين غيري لم يقتنع أهاليهم بعد بأن الحكومة يمكن أن يأتي من ورائها رجاء‏!‏
سافرت قروشنا إلي حيث لا نعلم‏.‏ وبعد ما يقرب من شهر‏,‏ لاحظنا ذات ضحي حركة غير عادية‏,‏ فثمة أفندية محترمون دخلوا المدرسة وتوجهوا إلي حجرة الناظر‏,‏ وبعد قليل خرج الناظر يتقدمهم إلي حجرة المعلمين الواسعة‏.‏ ثم بدأ محمود المهدي الفراش الأوحد للمدرسة يتحرك في اتجاه الفصول‏,‏ يخرج من فصل إلي فصل يمكث فيه برهة‏,‏ إلي أن رأيناه في مدخل باب فصلنا ينقر بظاهر أصابعه علي الباب‏.‏ وكان المعلم ساعتئذ هو قمر أفندي الشرنوبي الذي كان يحكي لنا قصة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وكيف فعل به الكفار ما فعلوا‏,‏ فتوقف عن الحكي وأذن للمهدي بالدخول‏.‏ فاقترب المهدي منه وهمس في أذنه بكلام لم نسمعه‏,‏ لكننا تفائلنا باحمرار وجه قمر أفندي تحت ضغط ابتسامة عريضة فيما يهز رأسه بالموافقة قائلا‏:‏ وهو كذلك‏.‏ عقب انصراف محمود المهدي مباشرة اتسعت الابتسامة المخملية علي شفتي قمر افندي كاشفة عن اسنانه الدقيقة الناصعة البياض كأنها أسنان للزينة فحسب‏.‏ وبصوته الرخيم الودود قال‏:‏ مفيش مرواح النهاردة بعد الجرس؟‏.‏ وبعد أن استمتع قليلا بمنظر التوجس الذي لاشك تلبكت منه ملامح وجوهنا استمتع مرة أخري بإلقاء المفاجأة التي يعرف أنها ستفرحنا‏,‏ حيث قال وهو يشير بذراعه اليسري نحو الحوش‏:‏ الوزارة باعتاهم ياخدوا مقاسات رجليكم واحد واحد عشان يفصلوا الجزم علي مقاسكم بالمظبوط‏!‏
عندئذ نسينا أننا في فصل دراسي‏,‏ نسينا حقدنا المشبوب علي الكفار الذين آذوا النبي‏,‏ صرنا نلكز بعضنا بعضا بخشونة ونطلق صيحات الفرح وندبدب علي الأرض بأرجلنا ونخبط فوق الأدراج‏.‏ صرخ فينا قمر افندي‏,‏ ذلك الرجل الرقيق الأنيق‏,‏ الأشد أناقة من جميع المعلمين في حلله الصوفية الإنجليزية الثمينة وقمصانه الحريرية وأربطة عنقه ونظارته الطبية ذات الإطار الذهبي المستدير العدستين‏,‏ صار فجأة كلسان لهب طالع من حريق‏,‏ هوي بالخيزرانه فوق سطح مكتبه عدة مرات متتالية كجرس الإنذار يعطينا عينة مما قد ينالنا فوق الأقفية من هذه الخيزرانة‏,‏ إنكتمنا علي الفور‏,‏ صرنا كالخشب المسندة وقد قفزت أجنابنا لنلقي لسعة غادرت من هذه الخيزرانة التي لا تؤتمن علي الإطلاق‏.‏ ظل قمر أفندي واقفا في صمت غاضبا لبرهة طويلة‏,‏ ثم‏,‏ وبلهجة تشي بنبرة المصالحة قال‏:‏
أنا سبق وقلت لكم إيه؟‏!‏
فبقينا صامتين شاخصين نحاول التذكر فيما سبق أن قاله لنا وقد التبس علينا الأمر‏,‏ هل يقصد ما سبق أن قاله في هذه الحصة؟ أم في حصص سابقة؟
إيه القول المأثور اللي دايما أقوله لكم؟
العبد يقرع بالعصا‏..‏ والحر تكفيه المقالة‏!‏
العبد إيه؟‏..‏ يقرع‏..‏ يعني ينضرب‏!..‏ يعني لازم تضربه بالخرزانة علي جنابه عشان ينفذ الأوامر‏!‏ عشان يشتغل‏!..‏ تعرفوا ليه؟ لأنه عبد‏!‏ أسياده عودوه علي الضرب بقسوة لحد ما أدمن الضرب وأصبح الضرب هو البنزين اللي بيحركه زيه زي الحمار محتاج عصاية تلسوعه‏!..‏ لكن بقي الحر‏..‏ الراجل الحر يعني المتعلم المتربي في بيتهم عنده دماغ بيشغله‏!‏ تقول له اسكت يسكت اعمل كذا يعمل أو يعترض إذا كان عنده رد مقنع‏!‏ حافضل طول عمري أقول لكم الكلام ده‏!‏ لأ طبعا مقداميش غير الخرزانة دي أتفاهم بيها مع أي واحد عاوز يبقي عبد‏!..‏ نرجع للي كنا فيه؟ وصلنا لحد فين في قصة الرسول؟
ولكن ماكان قد تبقي من قصة الرسول لم تثبت منه كلمة واحدة في رءوسنا التي انجذبت بكاملها إلي ما بدأ يدور في الحوش‏:‏ بعض الفصول اصطفت في طابور‏,‏ واقعي بين أقدامهم أفندية يقيسون أحجام الأرجل بالمازورة ويدونون‏.‏ إلي أن جاء دور فصلنا فتقدمنا كأحرار في صمت واحترام‏,‏ والغبطة تكاد تنفضنا من فرط الفرحة كأننا قد تسلمنا الأحذية بالفعل‏.‏ ولقد بقي هذا الحدث حيا في ذاكرة البلدة لأشهر طويلة‏,‏ ولكن الأحذية لم تأت علي الإطلاق‏.‏ وفي نهاية العام الدراسي التالي ألحف أهالينا في السؤال‏,‏ فقيل لهم إن المقاسات لم تكن مضبوطة وأنهم صرفوا النظر عن المشروع فيما يبدو‏.‏ قالوا‏:‏ والقروش التي دفعناها كيف نستردها؟ فقيل لهم‏:‏ ومنذ متي كانت الحكومة ترد ما أخذت من الناس؟‏!‏ إنها مثل المقبرة لا ترد ميتا أبدا‏!‏

المزيد من مقالات خيري شلبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.