العلم .. والقدرة    وزير الري يناقش السيناريوهات المختلفة لإدارة المياه في مصر    تحفيظ وتهذيب وتوعية.. مساجد جنوب سيناء تُحيي رسالتها الروحية    جامعة أسيوط تطلق منصة إلكترونية للتحويلات بين الجامعات والكليات    سعر اليورو اليوم الأربعاء 16 يوليو 2025 يتراجع فى منتصف تعاملات البنوك    وزير الإسكان يلتقي المدير الإقليمي لمجموعة معارض ومؤتمرات "سيتي سكيب" لبحث التعاون المشترك    وزير البترول يبحث مع "أنجلو جولد" تعزيز الاستثمارات في منجم السكري    مد غلق طريق الدائرى الإقليمى حتى 1 أغسطس فى هذه الأماكن    السياحة: 80 شركة تنظم 300 رحلة سياحية صحراوية لعدد 20 ألف سائح    وزير البترول يبحث مع "شلمبرجير" دعم أنشطة استكشاف وإنتاج النفط    منافسة عالمية    كارثة فى السويداء السورية.. المقاتلون الأجانب يستبيحون منازل المدنيين وينفذون إعدامات ميدانية.. حرق كنيسة مار ميخائيل وإذلال الدروز بحلق "شواربهم".. معارض سورى بارز: قائد الأمن الداخلى لم يستطع وقف الجرائم    رئيس الوزراء يوجه بالتعاون مع الدول الإفريقية فى تنفيذ مشروعات لتحقيق المصالح المشتركة    مصر تدين الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وسوريا    منظمة مصر السلام: الاستقالات المفاجئة تثير تساؤلات حول الضغوط السياسية على مقررى الأمم المتحدة    أول تعليق من حماس على "تقسيم" خان يونس إلى نصفين    أكاديمية الشرطة تستضيف دورتين تدريبيتين بالتعاون مع الصليب الأحمر    صراع خليجى على نجوم الأهلى    صفقة جديدة للأبيض.. ساعات قليلة تفصل رحيل مصطفى شلبي عن الزمالك    "لا تعجبني البالونة الحمرا".. خالد الغندور يثير الجدل: أشياء تافهة    لاعب الزمالك السابق: زيزو كان يحب النادي.. وكيف يفرط الأهلي في قندوسي؟    محمد إبراهيم يفوز برئاسة الاتحاد العربي لرياضة الفنون القتالية المختلطة «MMA»    فى عز الصيف.. الأرصاد تكشف خرائط الأمطار المتوقعة وموعدها    أبرزها 126 ألف مخالفة.. جهود الإدارة العامة للمرور في 24 ساعة    مصرع سائق وإصابة ابنته فى حادث تصادم سياريتين على طريق "الغردقة - غارب"    ضبط 14 طن حواوشي ودجاج مجهولة المصدر في حملات تموينية بالدقهلية    "فيديو مفبرك".. حيلة سائق لابتزاز شرطي والهروب من مخالفة بالجيزة    5 مصابين في حريق مخبز بلدي بأسيوط - صور    القبض على قاتل شقيقتة في المنيا    ناصر عبد الرحمن يقدم ورشة كتابة السيناريو بمهرجان بورسعيد السينمائي    منير وتامر حسني يحتفلان بطرح "الذوق العالي" بحضور بنات محمد رحيم    صناع مسلسل "فات الميعاد" ضيوف برنامج "هذا الصباح" غدًا على شاشة إكسترا نيوز    الرفاعي أخرجها من المنبر.. حكاية الكوبرا السامة التي أثارت رعب المصلين بالبحيرة    تحرير 531 مخالفة ل«عدم ارتداء الخوذة» وسحب 787 رخصة خلال 24 ساعة    مدرب النصر السعودي يحدد أولى الصفقات استعدادا للموسم الجديد    بعد الإعدادية.. شروط القبول في مدرسة الضبعة النووية 2025    عرضان من الدوري المغربي.. شوبير يكشف موقف الأهلي حول بيع رضا سليم    يوفنتوس يرفع عرضه لضم جادون سانشو وسط تمسك مانشستر يونايتد بمطالبه    سؤال برلماني بشأن معايير تشكيل المجلس الأعلى للثقافة: يخلو من الشباب    «مش هحل».. هنا الزاهد وسوزي الأردنية تعيدان مقطع «تيك توك» في عرض «الشاطر»    فيلم المشروع x بطولة كريم عبد العزيز يقترب من 137 مليون جنيه خلال 8 أسابيع    موعد المولد النبوي الشريف والإجازات المتبقية في 2025    الصحة تعلن تخريج الدفعة ال12 من الدبلومة المهنية في طب الإنجاب والجراحة DIRMAS    إنقاذ مصاب من موت محقق بعد تعرضه للدغة أفعى سامة بمستشفى أجا المركزي    رئيس قطاع الصحة بالقاهرة يجتمع لمتابعة فعاليات حملة 100 يوم صحة    القومي للبحوث يكرم البوابة نيوز    «عبد الغفار»: حملة «100 يوم صحة» تقدم خدمات مجانية عالية الجودة    بالتنسيق مع الأزهر.. الأوقاف تعقد 1544 ندوة بشأن الحد من المخالفات المرورية    اعرف حظك اليوم.. وتوقعات الأبراج    انتخابات مجلس الشيوخ 2025 اقتربت وهذا جدول الإجراءات المتبقية    عقب جولة تفقدية لكامل الوزير بالإقليمي.. «النقل» تعلن تمديد الغلق الكلي المؤقت للطريق حتى 1 أغسطس 2025    قتلى ومصابون جراء قصف روسي على عدة مناطق في أوكرانيا    محافظ أسيوط يتفقد موقع حادث محور ديروط ويوجه بصرف التعويضات ورعاية المصابين.. صور    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعلنا لنعمك شاكرين وبقضائك راضين    كيف أتغلب على الشعور بالخوف؟.. عضو «البحوث الإسلامية» يجيب    ما حكم اتفاق الزوجين على تأخير الإنجاب؟.. الإفتاء تجيب    70 شهيدًا فلسطينيًا منذ الفجر بنيران وغارات الاحتلال الإسرائيلي على غزة    انتهك قانون الإعاقة، الحكومة الإسبانية تفتح تحقيقا عاجلا في احتفالية لامين يامال مع الأقزام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع مقاومة الحفاء
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 08 - 2010

التحقت بمدرسة عبدالله نديم في العام الرابع والأربعين بعد التسعمائة والألف‏.‏ وكانت مدرسة بلدتنا هذه قد أنشئت في العام الثالث والعشرين أي عقب ثورة التاسع عشر بأربع سنوات‏ ,‏ ولم تكن تحمل اسم عبدالله نديم آنذاك‏.‏ أما متي حملته ولماذا؟ فذلك ما لم أشأ بحثه ترحيبا باسم عبدالله النديم الذي لم يكن خطيبا للثورة العرابية فحسب‏,‏ بل كان إلي ذلك أحد أهم بناة الروح الوطنية المصرية‏,‏ كمفكر ثوري شخص في عدة شخصيات إيجابية فعالة‏:‏ الصحفي والأدباتي والمناضل السياسي‏,‏ كما أنه رائد فن الزجل بل لعله مؤسس مدرسة الزجل المقاوم المهيج للجماهير المعبر عن الضمير الوطني وعن قاع الحياة في المجتمع المصري الذي لا يعرفه حكامه ولم يعرفوه علي طول الزمان‏.‏ وهي المدرسة الزجلية التي تخرج فيها أكبر عملاقين عظيمين كان لهما أكبر الأثر في المجتمع المصري المعاصر هما بيرم التونسي وبديع خيري‏,‏ ناهيك عن أبي السعود الابياري وأبي بثينة ومحمود رمزي نظيم وحسين شفيق المصري وغيرهم‏.‏
ناظر مدرستنا آنذاك رجل فاضل من حملة شهادة عالمية الأزهر الشريف‏,‏ ظل علي ولائه لزيه الرسمي‏:‏ الجبة والقفطان والعمامة فكان هو المعمم الوحيد بين لفيف من الأفندية المطربشين‏,‏ كنا نصطبح بوجهه كل يوم في طابور الصباح للتفتيش علي نظافة التلاميذ من فرط ندرتها بين عيال من أبناء الفلاحين والأجرية بل والمعدمين لا يملكون سوي الجلباب الذي يستر أجسادهم وبعضهم لا يخلعه عند النوم‏,‏ عذرهم ليس الفقر وحده‏,‏ إنما العذر الأكبر أن المدارس لم تكن في حسبان أهاليهم من الأساس بل هم غير مرحبين بها نظرا لاحتياجهم إلي العيال يساعدونهم في شغل الغيط أو باليومية في أرض الوسية‏,‏ غير ان دعوة طه حسين إلي التعليم الإلزامي باعتباره من حق كل مواطن كالماء والهواء قد تم تنفيذها وأصبح خفراء البلدة يجلبون العيال بقوة القانون إلي المدرسة برضاء أو عدم رضاء أهاليهم‏.‏ عدد قليل من أبناء المياسير الذين ألحقوا عيالهم بالمدرسة الإلزامية تمهيدا للصرف عليهم في مدارس البندر الابتدائية كانوا يملكون أكثر من جلباب نظيف علي الدوام‏,‏ وينتعلون صنادل ماركة باتا كانت شهيرة وأنيقة وثمن الواحد منها تسعة وتسعون قرشا وذاك مبلغ يشتري ثلاث كيلات من القمح تقيم أود عائلة بأكملها لمدة عشرين يوما علي الأقل‏,‏ ويشتغل به أجير رشيد لمدة عشرة أيام في عزيق أو حرث أو تطهير مصارف أو شتل أرز أو جمع قطن في أرض وسية محمد علي باشا الصغير أو أراضي الأعيان‏.‏ أما بقية العيال فحفاة يتراكم علي وجوههم صدأ البؤس وتنضح جلابيبهم بعرق الشقاء الكالح المزمن‏.‏
في عهد الناظر الشيخ حسن الزيات أبلغونا ذات يوم في طابور الصباح عن مشروع تبنته وزارة المعارف العمومية اسمه مشروع مقاومة الحفاء‏,‏ وطلبوا من كل تلميذ قرشا صاغا عشرة مليمات كرسم اشتراك في هذا المشروع‏,‏ من سيدفعه سيحصل علي حذاء‏.‏ رحب الأهالي بفكرة المشروع‏,‏ لكن عدم ثقتهم الأزلية في الحكومة جعلتهم يزمزقون‏.‏ إنهم دائما يزمزقون متي كان في الأمر فلوس مطلوب منهم دفعها‏.‏ ومع ذلك نشط في البلدة رأي عام يؤيد المشروع ويدعو إليه‏,‏ دفع الذين في أيديهم فلوس طوال العام‏,‏ واقترض الذين يفلحون علي ذمة أقرب محصول قادم‏,‏ وباعت بعض النساء تحويشاتهن من بيض الدجاج‏,‏ وباعت أمي بطة كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء‏.‏ وبرغم حزني الشخصي علي البطة فإنني صرت مزهوا بأني دفعت القرش قبل كثيرين غيري لم يقتنع أهاليهم بعد بأن الحكومة يمكن أن يأتي من ورائها رجاء‏!‏
سافرت قروشنا إلي حيث لا نعلم‏.‏ وبعد ما يقرب من شهر‏,‏ لاحظنا ذات ضحي حركة غير عادية‏,‏ فثمة أفندية محترمون دخلوا المدرسة وتوجهوا إلي حجرة الناظر‏,‏ وبعد قليل خرج الناظر يتقدمهم إلي حجرة المعلمين الواسعة‏.‏ ثم بدأ محمود المهدي الفراش الأوحد للمدرسة يتحرك في اتجاه الفصول‏,‏ يخرج من فصل إلي فصل يمكث فيه برهة‏,‏ إلي أن رأيناه في مدخل باب فصلنا ينقر بظاهر أصابعه علي الباب‏.‏ وكان المعلم ساعتئذ هو قمر أفندي الشرنوبي الذي كان يحكي لنا قصة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وكيف فعل به الكفار ما فعلوا‏,‏ فتوقف عن الحكي وأذن للمهدي بالدخول‏.‏ فاقترب المهدي منه وهمس في أذنه بكلام لم نسمعه‏,‏ لكننا تفائلنا باحمرار وجه قمر أفندي تحت ضغط ابتسامة عريضة فيما يهز رأسه بالموافقة قائلا‏:‏ وهو كذلك‏.‏ عقب انصراف محمود المهدي مباشرة اتسعت الابتسامة المخملية علي شفتي قمر افندي كاشفة عن اسنانه الدقيقة الناصعة البياض كأنها أسنان للزينة فحسب‏.‏ وبصوته الرخيم الودود قال‏:‏ مفيش مرواح النهاردة بعد الجرس؟‏.‏ وبعد أن استمتع قليلا بمنظر التوجس الذي لاشك تلبكت منه ملامح وجوهنا استمتع مرة أخري بإلقاء المفاجأة التي يعرف أنها ستفرحنا‏,‏ حيث قال وهو يشير بذراعه اليسري نحو الحوش‏:‏ الوزارة باعتاهم ياخدوا مقاسات رجليكم واحد واحد عشان يفصلوا الجزم علي مقاسكم بالمظبوط‏!‏
عندئذ نسينا أننا في فصل دراسي‏,‏ نسينا حقدنا المشبوب علي الكفار الذين آذوا النبي‏,‏ صرنا نلكز بعضنا بعضا بخشونة ونطلق صيحات الفرح وندبدب علي الأرض بأرجلنا ونخبط فوق الأدراج‏.‏ صرخ فينا قمر افندي‏,‏ ذلك الرجل الرقيق الأنيق‏,‏ الأشد أناقة من جميع المعلمين في حلله الصوفية الإنجليزية الثمينة وقمصانه الحريرية وأربطة عنقه ونظارته الطبية ذات الإطار الذهبي المستدير العدستين‏,‏ صار فجأة كلسان لهب طالع من حريق‏,‏ هوي بالخيزرانه فوق سطح مكتبه عدة مرات متتالية كجرس الإنذار يعطينا عينة مما قد ينالنا فوق الأقفية من هذه الخيزرانة‏,‏ إنكتمنا علي الفور‏,‏ صرنا كالخشب المسندة وقد قفزت أجنابنا لنلقي لسعة غادرت من هذه الخيزرانة التي لا تؤتمن علي الإطلاق‏.‏ ظل قمر أفندي واقفا في صمت غاضبا لبرهة طويلة‏,‏ ثم‏,‏ وبلهجة تشي بنبرة المصالحة قال‏:‏
أنا سبق وقلت لكم إيه؟‏!‏
فبقينا صامتين شاخصين نحاول التذكر فيما سبق أن قاله لنا وقد التبس علينا الأمر‏,‏ هل يقصد ما سبق أن قاله في هذه الحصة؟ أم في حصص سابقة؟
إيه القول المأثور اللي دايما أقوله لكم؟
العبد يقرع بالعصا‏..‏ والحر تكفيه المقالة‏!‏
العبد إيه؟‏..‏ يقرع‏..‏ يعني ينضرب‏!..‏ يعني لازم تضربه بالخرزانة علي جنابه عشان ينفذ الأوامر‏!‏ عشان يشتغل‏!..‏ تعرفوا ليه؟ لأنه عبد‏!‏ أسياده عودوه علي الضرب بقسوة لحد ما أدمن الضرب وأصبح الضرب هو البنزين اللي بيحركه زيه زي الحمار محتاج عصاية تلسوعه‏!..‏ لكن بقي الحر‏..‏ الراجل الحر يعني المتعلم المتربي في بيتهم عنده دماغ بيشغله‏!‏ تقول له اسكت يسكت اعمل كذا يعمل أو يعترض إذا كان عنده رد مقنع‏!‏ حافضل طول عمري أقول لكم الكلام ده‏!‏ لأ طبعا مقداميش غير الخرزانة دي أتفاهم بيها مع أي واحد عاوز يبقي عبد‏!..‏ نرجع للي كنا فيه؟ وصلنا لحد فين في قصة الرسول؟
ولكن ماكان قد تبقي من قصة الرسول لم تثبت منه كلمة واحدة في رءوسنا التي انجذبت بكاملها إلي ما بدأ يدور في الحوش‏:‏ بعض الفصول اصطفت في طابور‏,‏ واقعي بين أقدامهم أفندية يقيسون أحجام الأرجل بالمازورة ويدونون‏.‏ إلي أن جاء دور فصلنا فتقدمنا كأحرار في صمت واحترام‏,‏ والغبطة تكاد تنفضنا من فرط الفرحة كأننا قد تسلمنا الأحذية بالفعل‏.‏ ولقد بقي هذا الحدث حيا في ذاكرة البلدة لأشهر طويلة‏,‏ ولكن الأحذية لم تأت علي الإطلاق‏.‏ وفي نهاية العام الدراسي التالي ألحف أهالينا في السؤال‏,‏ فقيل لهم إن المقاسات لم تكن مضبوطة وأنهم صرفوا النظر عن المشروع فيما يبدو‏.‏ قالوا‏:‏ والقروش التي دفعناها كيف نستردها؟ فقيل لهم‏:‏ ومنذ متي كانت الحكومة ترد ما أخذت من الناس؟‏!‏ إنها مثل المقبرة لا ترد ميتا أبدا‏!‏

المزيد من مقالات خيري شلبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.