شهدت مدينة القاهرة فى يوم 24 أغسطس من سنة 1892م، صدور العدد الأول من مجلة (الأستاذ) والتى تُعد واحدة من أهم الصحف المصرية التى صدرت فى تلك الفترة من تاريخ الوطن، حيث أواخر القرن التاسع عشر، حين كانت البلاد تئن تحت وطأة الاحتلال البريطانى الجاسم على صدرها منذ سنة 1882م. و(الأستاذ) مجلة علمية تهذيبية فكاهية، أسبوعية، كانت «تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع»، مديرها عبدالفتاح النديم الإدريسى وكان محررها هو أخوه عبدالله النديم صحفى الثورة العرابية وخطيبها، الذى عاد إلى الظهور بعد فترة اختفاء دامت لمدة عشر سنوات بعدها تم القبض عليه ونفيه خارج البلاد إلى أن صدر العفو عنه من قبل الخديو عباس حلمى الثانى (1892 1914م). كان عبدالله النديم فى تحرير مجلته يستخدم أحيانا العامية المصرية إلى جانب اللغة العربية الفصحى، مستخدما طريقة الحوار بين طرفين أو عدة أطراف لتوصيل أفكاره للقراء. وعلى صفحات مجلة (الأستاذ) تم إثارة الكثير من القضايا الاجتماعية بالكشف عن السلبيات ومحاولة تفاديها، فقد كتب عبدالله النديم مرارا عن الوحدة الوطنية التى تجمع بين المسلمين والأقباط من أبناء مصر، مؤكدا ضرورة الالتئام بينهما وخطورة الانقسام. وفى إطار مناقشة المجلة لمعنى الوطنية فإنها فى عددها الثانى من السنة الأولى، الصادر بتاريخ 30 أغسطس 1892م، نشرت مقالا مطولا عنوانه «الحياة الوطنية»، وأغلب الظن أن كاتب المقال هو عبدالله النديم نفسه، حيث إنه جاء فى أسلوب النديم وفى مجالات اهتمامه أيضا. سعى كاتب المقال إلى تقديم تعريف لمعنى الحياة الوطنية الحقيقية، فهو يرى أن الحياة الوطنية ليست هى الجمهرة وإنما هى الاهتمام بالعلوم والصنائع والتعليم. حيث يقول كاتب المقال: «يزعم كثير من الناس أن الحياة الوطنية هى الجمهرة أى تجمع الأمة فى مكان، متكثرين متضامين وليس كذلك. فإن وفرة العدد والتجمع لا يغنى شيئا مع الفراغ من العلوم والصنائع الموصلين إلى توسيع دائرة العمران وحفظ الوطن من العاديات بما ينشأ عن العلوم من احتكاك الأفكار وتبادلها فى تناول بواعث الاختراع والاتباع وبث النظام الهندسى والتحفظ الصحى والتحصن العسكرى والإصلاح الزراعى والضبط الحسابى والإبداع الإنشائى والتعميم التجارى والتسهيل الآلى وحفظ الوحدة الوطنية فى الأجناس القاطنة فيما يسمى وطن بتوحيد القضاء والمعاملة وتمكين الطوائف من إجراء عاداتهم فى مجامعهم ومعابدهم وأعيادهم كل بما هو حق فى معتقده جميل فى عادته بلا حجر ولا تضييق وإطلاق حرية الإنشاء والمطبوعات إلى حد لا يبلغ تشويش الأفكار ولا المطاعن الدينية ولا الأهاجى الشخصية وفتح الاستيطان والمرور لمجاور معاهد وبعيد غير محارب وتبادل السياحة وتلقى المعارف بين الأمة ومعاهديها توسيعا لنطاق الآداب والفنون وتعميم الأمن فى أنحاء الوطن بضبط الوقائع والتضييق على الأشقياء واللصوص بالعقاب الشديد والتبصر ومراقبة أحوال الأفراد والالتفات إلى الأحزاب المضادة للوطن أو الدين أو السياسة وتبديد جموعهم أولا، فأولا حرصا على بقاء الملك وحفظا للوحدة الوطنية من تجزيئها حول الأهواء والمقاصد المضرة أهلية كانت أو أجنبية. وكل هذا لا يحصل بالتجمهر المجرد والتجمع البسيط..». وضرب الكاتب أمثلة لبعض الدول التى وقعت تحت سيطرة دول أخرى بسبب تخلفها وبعدها عن المعارف، موضحا أنه لما اهتمت تلك الدول بالمعرفة والصنائع فإنهم خرجوا من ذل التبعية. ثم يقول الكاتب «بهذا يعلم أن الحياة الوطنية هى انتشار المعارف والصنائع فى الأمة وأن التهور والتذمر مع الجهل والفراغ من المعدات لا يفيدان إلا الخذلان. إذ ليس لطالبى المعارف والصنائع سلم يُرتقى عليه إلى الحياة الوطنية إلا الهدوء والسكون وقطع الوقت فى تحصيل المراد منها حتى تتهذب الأفراد وترسخ أقدام الآخذين بيد النظام هنالك يُعرفون بين الأمم وتُظهرهم الحياة الوطنية ظهور من جاورهم فى الجد والاجتهاد فى تحصيل العلوم». ونظرا لأهمية التعليم عند الكاتب وأهمية تعميمه على الجميع، فإنه فى نهاية المقال يقول: «فإذا أقللنا من المدارس بعد أن عرفنا ثمراتها أو قصرنا التعليم على أفراد معلومة أو حولنا طريقة التعليم باللغة الوطنية الرسمية إلى التدريس باللغات الأجنبية فقد رجعنا بمدنيتنا القهقرى إذ يموت العلم بموت أهله ويحيا الجهل فى الطبقة التالية وهناك تقوى حجة الغربى فى قوله: الشرقى لا يصلح لتولى الأعمال ونعوذ بالله تعالى من السقوط فى هذه الوهدة وكيف يحصل هذا والقائم بأمر الأمة مولى الفضل وحبيب المعارف أفندينا المفخم أيده الله. ومن يرى الشرق الآن وتدافع أهله فى تعلم العلوم الدينية والرياضية والطبيعية يعلم أن التربية تحت الأحضان تنتج العمران والمدنية. ويشهد بحبهم للمعارف قول اللورد كرومر (السير بارنج) ما مررت بقرية من قرى مصر إلا رأيت أهلها يطالبون بتكثير المدارس. ولا بدع إن قلنا أن الحياة الوطنية بعد أن زارت الغرب وألبسته ثوب التمدن وأطلعت فيه شموس المعارف والمخترعات عادت إلى وطنها ومحل نشأتها فتلقاها أهلها بالتحية والسلام». هكذا اهتمت (الأستاذ)، مجلة الأستاذ عبدالله النديم، منذ أكثر من مائة عام، بتقديم المعنى الحقيقى للحياة الوطنية لجمهور القراء.