وأخيرا وربما بعد فوات الأوان يأتي وفي شكل خجول جدا حديث شبه رسمي عن بعض عيوب في عملية الخصخصة. بعض عيوب هو الوصف الخجول وغير الصحيح لكثير من التجاوزات وافتقاد الشفافية بل وافتقاد الرؤية العقلانية للمصالح الوطنية في كثير من الأحيان. لكن حمرة الخجل ومهما زادت لا تخفي خطأ الفعل وخطيئة الفاعل. وإذ نبدأ بهواية أو غواية فحص المعني اللغوي والفعلي للكلمات المستخدمة.. والتي استخدمت لتمرير أو تبرير هذه الخصخصة القادمة أو تلك التي فرضت نفسها في ساحة هذا الفعل نجد ما يلي: * تحرير الاقتصاد: وبما أن الاقتصاد في رأي أصحاب هذا التعبير كان سجينا وكان من الواجب فك قيوده, فإن كلمة تحرير كان من الواجب أن تلتقي مع كلمة أخري وهي تحرير المجتمع, ذلك أن البنية الرأسمالية علميا وأكاديميا وفعليا تتطلب دوما أن يكون اطلاق سراح الفعل الرأسمالي مرتبطا وحتما باطلاق سراح الشفافية وحرية تدفق المعلومات وحق منظمات المجتمع المدني في فحص مجريات الأمور, وحقوق الإنسان, وحرية النشر والتعبير وشفافية الانتخابات وحرية الاجتماع والتظاهر وتحرير العمل النقابي من أي سلطة خارجة. هكذا يكون الأمر. وهكذا كان. لأنه إذا كان المجتمع يمنح المستثمر الرأسمالي الحق في الاستغلال فإن الحق المرادف له تماما والذي لا يمكن أن ينفصل عنه هو تمكين القوة العاملة والجماهير الشعبية من الحق في مقاومة هذا الاستغلال إذا وصل إلي مرحلة الشطط, ليس عبر مغامرات فردية وإنما عبر قواعد قانونية راسخة تحمي الحق في مواجهة هذا الشطط سواء جاء من الرأسمالي أو من الحكم. ومن ثم فإن الحق في الملكية الرأسمالية وتطبيق آليات السوق الرأسمالية يتعين عليه أن يصطحب معها ومن أجل تحقيق توازن منطقي لاستقرار المجتمع ضمانات وحقوق القوي العاملة تكفل لها صياغة مصالحها وحقوقها. وهو ما لم يحدث ولو بأقل قدر. ومع تعبير تحرير الاقتصاد كان هناك الإصلاح الاقتصادي وهو مجرد نسخة أخري من ذات النظرة ولعلها فقط توحي بأن ما كان قائما كان فاسدا أو خاطيئا أو معوجا ويحتاج إلي اصلاح. * ثم كانت هناك تعبيرات أتت غامضة عن عمد ربما لتوحي للمواطن العادي أن الأمر ليس مجرد بيع أملاك الوطن وإنما هي رؤية علمية لا يدركها إلا أصحاب العلم الوفير, ومن ثم غاب الفهم عن أغلب المواطنين عندما طالعوا تعبيرا مثل التثبيت والتكيف الهيكلي وأنا أتمني أن أمتلك القدرة علي طرح مسابقة بجوائز ثمينة لمن يزعم أنه يفهم هذه الكلمات فهما حقيقيا. لكن الأمر كان متعمدا لكي لا يحاول المواطن العادي أن يناقش لماذا تبيعون؟ ولماذا بهذا السعر؟ ولماذا لهذا الشخص بالذات؟ ولماذا بهذا العبط القانوني في نصوص العقود؟ لا يحاول أن يحتج لأنه لا يفهم وهو لم يفهم إلا عندما أحس بحد السكين وهو يذبحه ويذبح معه مستقبله ومستقبل أولاده ومستقبل الوطن كله. * أما تعبير الخصخصة: فهو سهل علي الفهم فهو: تحويل ما هو عام الي ما هو خاص. وإذا كان الأمر بالفعل ماضيا كان أم مضارعا أي خصخص أو يخصص فهو يعني بيع المال العام إلي شخص أو مستثمر يسمي أحيانا لزوم السعي نحو الاحتكار المستثمر الرئيسي. إن الخصخصة هي بيع شيء مملوك لعامة الناس إلي شخص بعينه مصريا كان أم أجنبيا. وهنا يجب أن يدرك الذي باع والذي اشتري والذي أيد أو حرض, أن التصرف لا يأتي من جانب من ملك وإنما من يفترض في نفسه أنه ينوب عن المالكين. وهذا الافتراض يتهالك عند التأني في تحديد شروط صحة هذه النيابة. والشروط عديدة تبدأ بالانتخابات الحرة والشفافية والتكافؤ والتي تفرز ونوابا يمثلون الشعب حقا, وليس بالتدخل الإداري أو بشراء الأصوات في مزادات تثير التقزز والتساؤل من أين كل هذا المال؟ ولماذا ينفق بهذا الجنون؟ وشروط أخري حول الشفافية والخلو من العوار سواء في ثمن أو في صياغات العقود أو في الحماية الحقيقية للعمال ولكل الأصحاب الحقيقيين لهذا المال العام. ولأن مصر لا تعرف تداولا للسلطة فإن من يهدر المال العام عن عمد أو لمصلحة أو حتي عن جهل, ينفذ بجلده أو بما كسب ودون محاسبة. وثمة تعبير يستحق منا أن نتوقف أمامه لأنه مكمل ولازم لأي بنية رأسمالية عاقلة. وهو: * التساقط: ويعني ببساطة أن طبيعة النظام الرأسمالي تفترض أو حتي تفرض تصاعد نسبة عالية من الأرباح وتركزها في أيدي حفنة من كبار كبار الأغنياء. وهنا يفرض علي هؤلاء أن يلجأوا إلي اسقاط نسبة من هذه الأرباح لتصل إلي جماهير الفقراء ليس عن شفقة أو رحمة أو ادعاء بالتدين, وإنما عن عقل يستهدف حماية مجمل النظام من غضب جماهيري سيأتي حتما عندما يضيق الخناق علي الفقراء ويدفعهم إلي مزيد من الإفقار والبطالة والعجز عن سد المتطلبات الأساسية والإنسانية للحياة. ومنذ فترة نجح أحد كبار المستثمرين الأمريكيين في اقناع40 من كبار المليارديرات بالتعهد باحداث عملية تساقط بنصف كل ما يمتلكونه من أموال فماذا عن رأسماليينا؟. كما يفرض العقل علي الحكومات والأنظمة أن تحدث تساقطا اجباريا عن طريق فرض ضرائب تصاعدية تصل نسبتها أحيانا إلي90% من مجمل الربح لكي تستطيع أن تنهض بالاحتياجات المجتمعية من تطوير للتعليم والخدمات الصحية والإسكان وصيانة المرافق وتطويرها. لكن نظامنا الرأسمالي وبرغم الصفقات المريبة والبيع بأثمان بخسة وامتيازات بلا حصر لكبار المستثمرين إلا أنه لا يشهد أي نوع من التساقط لكن البعض يحاول أن يسقطنا في مصيدة الوهم فينفق علي اعلانات توحي بأنه يحتضن حفنة من الطلاب أو يرعي بعضا من الرياضيين لكن ما يدفعه هؤلاء للإعلان عن أنفسهم ومحاولة اظهار أنهم أخيار أطهار وانسانيون هو عشرات أضعاف هذا الفتات الذي يسقطونه بالفعل علي المجتمع. أما الحكومة فهي خاضعة خائفة من أن تفعل ما يطلبه جميع العقلاء من ضرورة فرض ضرائب تصاعدية.وهكذا فإننا ازاء نظام رأسمالي هو في الواقع رث وغير متسق مع المنطق وغير عادل.. ويتطلب الأمر كتابة أخري فإلي لقاء.