يري الكثيرون أن الأممالمتحدة لا تجدي نفعا وأنها لا تحقق العدالة المنشودة عالميا لغياب المعايير وسيطرة القوي الكبري علي صناعة القرار لكن اجتماعات الجمعية العامة والمشاورات الرفيعة المستوي الدائرة حاليا بين الزعماء ورؤساء الحكومات علي مدي أسبوع كامل تعطي ملمحا واقعيا للسياسة العالمية, وهو أن الأممالمتحدة ربما تكون' شرا لابد منه' حيث لا يثق الكثيرون في جدوي المنبر العالمي لكنهم يشدون إليه الرحال طوعا بحثا عن عدالة مفقودة في عالم معقد لا يمكن لأي دولة أو نظام حكم أن يقف خارجه, وهي واحدة من معضلات المنظمة العالمية- الارتضاء بالأمر الواقع. قبل بدء الاجتماعات الرفيعة المستوي للجمعية العامة قال السويسري جوزيف داس الرئيس الجديد للجمعية العامة وإن' من يريد أن يبحث في الخلل في صناعة القرار وعدم وجود سلطة فعلية للجمعية العامة عليه أن يغير ميثاق المنظمة العالمية'.. وبسؤاله عما سيفعله مع تقرير جولدستون الخاص بالحرب علي غزة وجه كلامه للصحفي العربي صاحب السؤال قائلا' دعنا نترك ما فات ونعمل علي تشجيع العملية الحالية- يقصد المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين'. ورغم ما سبق تظل الأممالمتحدة مقصدا لكل الأطراف بحثا عن حلول للقضايا العالمية الملحة والمتفاقمة والصيغة المعلنة لاجتماعات الجمعية العامة, هي مناقشة ثلاث قضايا رئيسية هي محاربة الفقر والبيئة وإصلاح المنظمة الدولية بالقطع لا ينافس أحد في الأهمية منطقة الشرق الأوسط. سيطرت علي المناقشات6 جبهات رئيسية في أطر محددة- من الناحية السياسية وطريقة تعامل الأممالمتحدة والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن معها- وهي القضية الفلسطينية الرباعية الدولية والسودان اجتماع رفيع المستوي بحضور الرئيس الأمريكي باراك أوباما وإيران والقضية النووية مجموعة5+1 والأوضاع في اليمن وتهديدات تنظيم القاعدة مجموعة أصدقاء اليمن وأفغانستان مجموعة الدول المانحة, ثم العراق بكل تعقيداته ولجانه الدولية قبل وبعد الحرب الأخيرة. المفارقة أن القضايا الرئيسية التي اجتمع من أجلها الزعماء وكبار المسئولين وبخاصة مواجهة الفقر ومبادرات محاربة الجوع ونقص الرعاية الصحية والتعليم الجيد قد تركت للجلسات العامة والإعلان عن المبادرات في حفلات استقبال فاخرة, بينما المناقشات دارت في الكواليس وفي الغرف المغلقة حول موزاين القوي الإقليمية وصراع الدول الكبري في مناطق النفود كما لو كانت الحرب الباردة قد عادت من جديد. أمريكا والصين في مواجهة مالية وإقتصادية حول العملة تتغدي علي أوضاع اقتصادية غير مسبوقة في الولاياتالمتحدة وأمريكا وروسيا يتنازعان عن مكانة الاتحاد الروسي علي المسرح الدولي وبخاصة في الشرق الأوسط وأمريكا والاتحاد الأوروبي في حالة توتر من مستقبل الاقتصاد العالمي والمنهجين المتعارضين للتعامل مع الركود الحالي. كل تلك التوترات لا تظهر في اللقاءات والخطب التي تتحدث عن العمل الدولي المشترك والسعي لانتشال الفقراء من الهوة السحيقة, ولكنها تظهر في معالجة القضايا الإقليمية الحرجة مثل الشرق الأوسط وكوريا الشمالية. علي سبيل المثال اجتمعت الرباعية الدولية لبحث عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وهي غير مستعدة لمناقشة الأمر برمته لأن التفاصيل الأخيرة في حوزة الوسيط الأمريكي بعد جولة إستئناف المفاوضات المباشرة في واشنطن فكانت النتيجة بيانا' تقليديا' يكرر ما سبق قوله في مرات سابقة, رغم أن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة وحتي الروس يتحدثون عن فرصة يجب ألا تضيع وأن الجميع يجب أن يتكاتفوا لمنع استئناف عمليات الاستيطان بعد إنتهاء العمل بقرار الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد واختلف المجتمعون علي الشخصية التي ستظهر أمام وسائل الإعلام للتحدث باسم المجموعة ولم تترك الفرصة للأمين العام ليتحدث في الأمر رغم تصريحاته المتتالية في مشكلات أخري وهو ما ترك علامات إستفهام عديدة حول ما يحدث بين الأطراف الدولية المؤثرة في مسار الأحداث. وفي جميع الاجتماعات التي عقدت حول القضايا الإقليمية وبخاصة الاجتماع الرفيع المستوي حول السودان- يوم الجمعة- سبقته إجتماعات تحضيرية كثيرة حملت رسائل أمريكية واضحة مثلما حدث بين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية وعلي عثمان طه نائب الرئيس السوداني حيث كانت رسالة الإدارة الأمريكية واضحة بضرورة عدم إضاعة المائة يوم المتبقية علي استفتاء استقلال جنوب السودان فيما لا طائل منه وأن الموقف من حكومة الخرطوم في المستقبل سيتحدد بناء علي موقفها من الاستفتاء وتعاونها مع الجهات الدولية المنظمة للحدث الخطير. والإدارة الأمريكية مدفوعة في السنة الحالية إلي تأكيد قيادتها للساحة العالمية- في غياب الإنجاز الداخلي- وهو ما عبر عنه صراحة أحد مساعدي الرئيس أوباما لشئون مجلس الأمن القومي حيث قال إن الرئيس الأمريكي يقضي يومين ونصف اليوم في مشاورات ولقاءات علي المستويين الثنائي والدولي لتأكيد مكانة أمريكا علي المستوي الدولي وهو ما يريد البيت الأبيض من ورائه أن يسوق للديمقراطيين والناخبين الأمريكيين قبل انتخابات الكونجرس في نوفمبر أن إدارته قابضة علي مقود السيارة رغم تفاقم الأوضاع في مناطق حساسة مثل أفغانستان. والمفارقة الثانية أن أوباما توجه إلي نيويورك في اليوم نفسه الذي نشرت' صحيفة واشنطن بوست' مقتطفات من كتاب' حرب أوباما' للصحفي الشهير بوب وودورد يشرح فيه طبيعة الشقاق داخل ادارة أوباما حول الحرب الدائرة في أفعانستان وهي التي وصفها الجنرال ديفيد بيتريوس قائد القوات الأمريكية في أفغانستان بأنها ستورث للأجيال القادمة لتخرج المندوبة الأمريكية في الأممالمتحدة سوزان رايس من الإجتماعات لترد علي توقع الجنرال بالقول إن الصراع لن يورث وإن الأمر يمكن حسمه من خلال التوجيه الصحيح للموارد البشرية والمادية مثلما حدث في العراق! في سياق الصراع بين الرغبة في إظهار القيادة العالمية من جانب والحاجة للمنافسين والأصدقاء لإدارة الصراعات المعقدة في جانب آخر تبدو الولاياتالمتحدة أكثر انفتاحا علي الأطراف الدولية عندما يتعلق الأمر بطلب الدعم المادي الدولي سواء في صورة قوات أو موارد نقدية مثلما هو الحال في الحالة الأفغانية أو اليمنية حيث تنخرط الولاياتالمتحدة في مناقشات ومشاورات دولية لتوفير غطاء دولي واسع النطاق في الحرب علي الإرهاب ومواجهة خطر تنظيم القاعدة والمتطرفين علي مصالح الأطراف المعنية بينما تتخلي عن تلك المعادلة تقريبا عندما يكون الأمر أبعد عن الإنفاق علي إدارة صراع مسلح أو تغطية مادية مثلما هو الحال في المحادثات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين. علي سبيل المثال تقترب السياسة الأمريكية من الروس للتنسيق مع التحالف الغربي بشأن أفغانستان بينما تتباعد واشنطن وموسكو عندما يتعلق الأمر بحسابات وموازين القوي في الشرق الأوسط. وتمثل الحالة الإيرانية المثال علي التوافق الأوسع بين أمريكا والأطراف الرئيسية نتيجة التقاء المصالح في عدم السماح لإيران بالإخلال بموازين القوي. ومن سياق الحوارات الجانبية وكواليس المنظمة الدولية يبدو التناقض في مستويات التعاون بين الولاياتالمتحدة والآخرين المشار إليها سلفا مسئولا عن الفجوة التي يصعب عبورها لبناء مواقف صلبة إزاء القضايا المشتعلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وتكون حصيلة التفاهمات الدولية-في الغالب- لغزا يصعب فهمه!