شهد شهر رمضان في زحام مسلسلاته لافتا يعرض للتطور أوبالأحري التفسخ الاجتماعي في مصر هو مسلسل أهل كايرو. وتدور أحداثه حول جريمة قتل ممثلة شابة. مست قصة صعودها ونهايتها المأسوية عالم السياسة والأعمال وقضايا الفقروالتفاوت الاجتماعي وحرية الصحافة وغيرها من القضايا المهمة التي يتفاعل حولها الجدل العام. ويعرض المسلسل صورة قاتمة لسكان المدينة يكون فيها طرفا في الجرم أو الذنب, متغاضيا عنه, أو متواطئا فيه, أو صاحب مصلحة في حدوثه, فمن نموذج رجل الأعمال الانتهازي إلي نموذج السياسي الفاسد, إلي أسرة القتيلة التي تغاضت أو تواطأت مع صعودها المشبوه, الي رئيس التحرير المرتبك اخلاقيا لاعتبارات السوق أو المنافسة المهنية أو القيود السياسية, الكل مدان في أحداث كايرو وتعتبر الصورة التي تقدمها الأحداث هي مرأة عاكسة لحالة الحوار العام في مصر حول مايسمي عادة بالأزمة أو المحنة التي تشير إلي ظواهر مثل تردي الأوضاع, والتدهور الأخلاقي والحرمان الاجتماعي, والفساد وغيرها من القضايا التي اصبحت تلون حديث المصريين عن حالهم. وعلي النقيض تماما من تلك الصورة القاتمة للمدينة المليونية ظهر منذ فترة قصيرة فيلم لمؤلفة كندية باسم زمن القاهرة أو كايرو تايم تدور أحداثه في القاهرة حول زوجة موظف بالأمم المتحدة لغوث اللاجئين, جاءت في اجازة فهامت بغرام المدينة ووقعت في أسرها, والمدينة التي يقدمها الفيلم هي كايرو مختلفة تماما, فهي النيل الساحر وحفلات العرس المصرية المبهجة والمقاهي الساهرة, والبشر الذين يعرفون كيفية الاستمتاع بحياتهم, وتتكامل الصورة الرومانسية للمدينة بخلفية عذبة للفيلم تتقاسمها أنغام بالغة الروحانية لأذان متكرر مع أجمل أغاني الحب لأم كلثوم ومع مشاهد النيل الخلابة والأهرامات وقت الغروب, والطرز المعمارية في ميادين وسط القاهرة, وتجنب واضح لما قد يشوه تلك الصورة المثالية للمدينة, يرسم الفيلم صورة مثالية للمكان لا يناقضها سوي تعليقات المؤلفة وهي ذاتها مخرجة العمل علي شبكة الإنترنت. ان أجواء التصوير الحقيقية كانت أقرب إلي فيلم الأكشن منها إلي الفيلم الرومانسي! والمفارقة الحقيقية ليست بين عملين فنيين أحدهما يرفع المدينة إلي قمة السحاب والآخر ينحط بها الي أسفل الحضيض, فتفاوت الرؤية مفهوم وتبرره عدة أسباب فقد يكون مرجعه فارق من ينظر لواجهة المدينة الجميلة مقارنة بمن يغوص في أعماقها, كذلك قد يكون مبعثه أن الفيلم يتناول المكان بالأساس, ولايدعي تحليلا اجتماعيا للسكان بل يتناولهم كضيوف عابرين علي المدينة التي يسكنها التاريخ, أما البشر فيتم تناولهم في إشارات عرضية إلي ظواهر مثل خروج البنات من التعليم وعمالة الأطفال من خلال مشهد لبنات عاملات في مصنع للسجاداليدوي, وهي الظواهر التي تلفت انتباه المراقب الأجنبي أو السائح بوجه عام. في حين أن المسلسل بطله الناس أو أهلالمكان وماحدث لهم حقيقة أو تصورا في بدايات القرن الحادي والعشرين وبين صورة المدينة مسرح الجريمة الذي يظهر في المسلسل من ناحية والأجواء بالغة الرومانسية للفيلم الكندي الذي يعتبرالقاهرة هي مدينة الحلم, أو موطن البهجة من ناحية ثانية فإن القاهرة الحقيقية تستعصي علي مثل تلك التنميطات البسيطة, وإذا كان لعمل فني أن يتناول الروح الحقيقية للمكان وبشره, فإنه في الغالب سينتمي لطائفة اللامعقول! فالحياة في المدينة وسكانها صورة فسيفسائية بالغة التركيب ويتعايش فيها ماينتمي إلي الصورة الأولي تماما مع ينتمي إلي الصورة الثانية في خلطة مركبة تتحدي المنطق, وان كان الرصد أميل إلي التقاط الظواهر السلبية ربما لجدتها أو غلبتها أو شيوعها. وبينما المسلسل إلي تناقض رئيس بين المظهر والجوهر في معظم شخصياته وأحداثه, فإن واقع الحال في القاهرة أكثر ثراء من تلك الاختزالية ويحوي كما هائلا من التناقضات الإيجابية والسلبية. والاطروحات متنوعة بشأن وصف وتحليل ماحدث لأهل مصر وعاصمتها, منها ظواهر ترييف المدن وزحف العشوائيات ومنها مايتناول مشكلات التطور الاقتصادي والاجتماعي مثل تآكل الطبقة الوسطي أو الحراك الاجتماعي والتغريب وتزايد الفقر والتفاوت الاجتماعي ومنها ماينتمي إلي التحليل الثقافي مثل الأخذ بالتدين الشكلي, والتعصب الديني, بينما تشيع بدرجة أقل أفكار تؤكد الآثار غير المحمودة للعولمة وانفتاح المكان علي أبواب جهنم الثقافية. وقد كان ذلك موضوعا لعدد من الكتب ولأعمال أدبية التي حققت انتشارا واسعا مقاسا بمبيعاتها واهتماما محليا وعالميا اخيرا مثل عمارة يعقوبيان التي ترصد التطورات الاجتماعية والسياسية من خلال سكان عمارة في وسط العاصمة, وتاكسي الذي يروي ذاكرة المكان وأهله وماطرأ علي حياتهم وظروفهم المعيشية وأخلاقهم من تغييرات من خلال رؤية سائقي التاكسي, ويعكس الاهتمام البالغ بتلك الأعمال في أحد أبعاده أن قضية فهم ماذا حدث للمصريين تحتل مكانة مهمة في أولويات الحوار العام وأن هناك قدرا من التوافق علي حدوث تغيرات كبري تسودها تقييمات سلبية اعترت البشر والمكان. والحقيقة أن الكثير من التفسيرات وإن كانت تتناول جوانب مهمة مما طرأ علي القاهرة أو مصر بوجه عام وسكانها فإنها في الغالب تتجاهل تطورات أخري لاتقل أهمية فظواهر مثل التغريب, والانكفاء الذاتي وسيطرة القيم المادية علي سبيل المثال والتي كثيرا مايشار إلي انتشارها بين أوساط الشباب واكبها في الوقت ذاته ميول واضحة لدي قطاعات غير قليلة من الشباب المصري للعمل العام والتطوع سواء بوازع ديني أو بوازع مدني والأمثلة هنا كثيرة أغلبها ينتمي الي المجال الخيري مثل جمعية رسالة وعشرات غيرها غيرت شكل العمل الأهلي والتطوعي في مصر من مجال لسيدات المجتمع الراقي الي مجال ديناميكي للشباب من مختلف طوائف المجتمع, والذي يعتبر المصلحة العامة أو خدمة المجتمع هو محركه الرئيسي, فالصورة الشاملة للتطورات ل أهل القاهرة فيها من الظواهر مايتحدي النغمة الحزينة التي تسود في الحديث عنها, وإن كان النقد الذاتي واجبا والمشكلات والسلبيات اكثر غلبة وأعمق من أن يتم تجاهلها أو ادعاء غيابها فالقاهرة تظل خليطا فيه مايبعث علي اليأس إلي جانب مايحفز الأمل فيتجاور فيه الفقر مع الغني والأحياء الراقية مع العشوائيات ويتفاعل فيها السكون مع الحراك, والعطاء مع الحرمان والثقافة مع الجهل, وهي المدينة التي تضاهي عواصم الدول المتقدمة في سرعة الحركة بينما لاتضاهيها إطلاقا في الإنتاجية وربما تكون هذه هي تفاعلات العولمة مع الثراء السكاني والميراث الثقافي للمكان أو تراكمات عقود تركت آثارا لتطورات غير مكتملة علي السكان وشرائحهم الاجتماعية, إلا أن القاهرة في النهاية ليست بالتأكد هي قاهرة أهل كايرو.