أليست هذه حقا محنة للعقل: حين ينادي سدنة التنوير بأن هذا العقل الإنساني بكل كمالاته وعثراته هو الفيصل المقدس في رسم منهج الحياة دون هدي من شرع أو اعتماد علي وحي. وفي الوقت نفسه ينادي دعاة السلفية المدعاة التي زعمت لنفسها: احتكار وراثة السلف الصالح إلي الارتياب في هذا العقل ذاته, ومن ثم إلي هيمنة الفهم الحرفي الضيق للنصوص,وإنكار التأويل والإعراض عن اتساع اللغة القرآنية وتعدد أساليبها في التعبير والتأثير؟ ألا ينذر هذا الاستقطاب الحاد بين هذين النقيضين بشيوع الالتباس, والحيرة, ويصيب وعي الأمة بالتيه وغبش الرؤية؟ إن الوعي الإسلامي علي المستوي الفردي والجماعي مطالب تبعا لمنطق التنويريين: بإهمال المكون الرئيسي من مكونات وجوده, والسند الأعظم من أسانيد هويته, وهو الشرع, بما يحمله من الأصول والمباديء, وبما يتضمنه من الأوامر والنواهي, دون أن يرتد أولئك التنويريون إلي أنفسهم بسؤال أصيل, فهل يمكن لأمة يمثل الشرع سواء علي المستوي العملي أو الفكري عمادا لكينونتها: أن تعزل نفسها عنه عزلا, وتنزعه نزعا من الذات العميقة الكامنة وراء المظاهر المترسبة في كوامن العقل والشعور والوجدان؟ لقد قال قائل منهم بالنص الحرفي في هوامشه علي دفتر التنوير إن النهضة الفكرية لايمكن ان تتحقق إلا بالخروج من ظلامة النقل إلي استنارة العقل, كما أردف لا فض فوه قائلا إن من قضايا التنوير الأساسية: إرساء مباديء: العقلانية محل الأصول النقلية كما قال قائل آخر منهم دون مواربة ولا مواراة: إنا لن نسلك طريق الصواب إلا إذا اعتقدنا أن الخير كل الخير هو النظرة التي تقوم علي تقديس العقل, بحيث نجعله معيارا أساسيا لحياتنا كما أردف لافض فوه هو الاخر إذا أردنا لأنفسنا طريق الحضارة والتنوير فلا مفر من إقامة هذا الطريق علي العقل, بحيث يكون هذا العقل هو الهادي لنا إلي سواء السبيل, والمرشد لنا إلي طريق الحق واليقين, والمنارة التي نعتصم بها فنهتدي إلي مافيه كل الخير لأنفسنا ولأمتنا! علي الضفة المقابلة تقف السلفية المدعاة التي ابتعدت عن سماحة السلف الصالح, وغفلت عن وسطيتهم, واتزانهم الفكري والعقدي والعملي: داعية في إلحاح إلي تعطيل عمل العقل جملة, أخذا بالفهم الحرفي الضيق للنصوص الشرعية, وعلي النحو الذي أدي إلي غلبة الأشكال والمظاهر الجوفاء, فاتسعت دائرة المحرمات, وضاقت دائرة المباحات, وازداد ولع الأمة بقضايا المأكل والمشرب والملبس, كما زاد انصرافها عن مقاصد الشرع العليا, وعن توجيه الفهم نحو التقدم والتحضر, واستنهاض الطاقات, وشحذ الإرادات, وتواري من وعيها: الاهتمام بقضايا العدل والحرية والمساواة, والخلاص من أثقال الاستبدال, وآفات الظلم, ومعوقات النهوض في حين أن تلك المقاصد العليا والقضايا الكبري كانت دوما محط آهتمام السلف الصالح, يرنون إليها, ويعضون عليها بالنواجذ!! فهل قضي علي عقل الأمة أن يكون ضحية التقديس والتهويل عند الأولين, وفريسة الارتياب والتهوين عند الآخرين؟ وهل غاب عن الأولين والآخرين جميعا مااتسم به التراث الإسلامي من التوازن بين العقل والشرع في كيان خصب فريد دون إقصاء لأحد الأمرين, أو رفض له؟ هل غاب عن الأولين والآخرين جميعا تلك الذخيرة الفلسفية والكلامية التي أسست أصول العقائد علي هدي من العقل, جاعلة منه الطريق الي إثبات الإلوهية بصفاتها وأفعالها, والنبوات بمعجزاتها وشرائعها, كما كانت مناهج العقل السليم هي الأدوات التي تفهم بها التكاليف الشرعية ومقاصدها ومراميها, وبذلك أسهم المتكلمون والأصوليون والفلاسفة قاطبة في التوازن بين العقل والشرع, وإن اختلفت طرقهم إليه, وتنوعت رؤاهم له؟ هل غاب عن الأولين والآخرين جميعا: مدرسة الرأي التي انبثقت حول فكر الإمام الأعظم إبي حنيفة النعمان, تلك المدرسة التي جعلت الشريعة معقولة المعني, بحيث يمكن التعرف علي عللها, وذلك باستقراء وجوه المصلحة في النصوص, ليتم إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص: لاتحاد علة الحكم في الأمرين؟ وبذلك أسست تلك المدرسة الباذخة التوازن بين العقل والشرع تأسيسا رصينا طبع الفكر الإسلامي علي مدي القرون بطابعه الرفيع؟ بيد أن الدعوة الجادة إلي التوازن بين العقل والشرع ينبغي ألا تتحول إلي عبارة خطابية فضفاضة خالية من التحديد, بحيث تتيح لكل من شاء أن يقول مايشاء. دون ضوابط حاكمة, أو أصول موجهة: فليس من المشروع ولا من المعقول أن تفتح الأبواب علي مصاريعها لكل من يري من أوامر الشرع ونواهيه شيئا لايتفق مع هواه الشخصي أو ميله الذاتي ثم إذا به يرفع عقيرته صائحا بضرورة انحناء الشرع لكي يتفق مع هذا الهوي الرجراج أو هذا الميل الجانح, بحجة التوازن بين العقل والشرع, فالشرع بمقتضي إلهية مصدره: حاكم علي تصرفات البشر, ضابط لمعاييرها, وليس محكوما بها, ولاتابعا لها. وليس من المشروع ولا من المعقول: إطلاق مقولة تقديم العقل علي ظاهر الشرع علي عواهنها دون تبصر, فمصطلح ظاهر الشرع مصطلح دقيق, تلوكه بعض الألسنة في غير وعي ولا فهم, ومن شأن هذا التناول السطحي أن يفتح الباب واسعا أمام سيل مما يسمي القراءات الجديدة للنص المقدس, تعبث فيه تهديما وتحطيما, بعد أن تدعي بالباطل والبهتان: وجود تعارض موهوم بين العقل وبين ظاهر النص, مع أن قليلا من التأمل العاقل وسلامة القصد كفيلة بأن تزيل هذا التعارض الموهوم, فلا يبقي له من أثر!. وليس من المشروع ولا من المعقول: أن مايقف العقل إزاءه من أوامر الشرع دون الوصول إلي كنهه ومغزاه يتحول لدي أصحاب الأفهام المعوجة إلي أمر مستحيل الوقوع, يجب في نظرهم الكليل طرحه والتخلص منه, فالشرع كما يقول المحققون من العلماء لايأتي بما يستحيل عند العقل, لكنه قد يأتي بما يحار فيه العقل, والبون شاسع بين الحيرة والاستحالة! وبين المحارات والمحالات! ثم أقول: إن الذي يدعو إلي الأسف والدهشة معا أن يجتمع هذان الفريقان المتباعدان برغم اختلاف منطلقاتهما: علي أن الشرع غريب عن العقل, وكأنهم جميعا يصيحون قائلين في أحادية بائسة: إما العقل وإما الدين!!... أفليست تلك محنة للعقل وللدين معا؟!