حين تصاب بعض المفاهيم الأساسية في الفكر الاسلامي بالاختلاط والالتباس: يمسي تحديد معانيها الرئيسية والفاصلة: مهمة ملحة, لاتحتمل التأجيل أو الارجاء, سعيا وراء إزالة ما علق بها من غبش الرؤية وزيغ التصور. في هذا الاطار يصبح الكشف عن الصورة الحقيقية لطائفة السلف رضوان الله عليهم علي قدر كبير من الأهمية, نظرا لما أصاب تلك الصورة من خلط وتشويه, سواء علي يدي من ادعوا لأنفسهم احتكار وراثة السلف تحت اسم السلفية فإذا بصورة السلف وقد اقترنت علي أيديهم بالغلظة والشكلية والجمود, أو علي يدي بعض حملة الأقلام الذين ذهبوا إلي الجانب المقابل ربما بتأثير رد الفعل فإذا بصورة السلف وقد اقترنت لديهم بالتخلف والنكوص عن تيار التقدم, ولكل وجهة هو موليها!! من أصوب الصواب إذن أن تحتكم الرؤية الصحيحة لمفهوم السلف إلي عدد من الضوابط الجوهرية, تهدي الي الرشد, وتنأي عن الجدل العقيم. أول تلك الضوابط: أن مفهوم السلف وان كان يسير زمنيا الي فترة ماضية من التاريخ: إلا ان هذا المفهوم يضرب بجذوره الي منهج فكري كان السلف يستمسكون به, ويلتئمون حوله, دون ان يجمعوا! علي رأي واحد, أو يتشبثوا بموقف واحد, يقصي ماعداه كل الاقصاء وينكره كل الانكار!! وإلا فبماذا نفسر بروز اتجاه الرأي حول آراء الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود, الي جانب بروز الاتجاه النصي حول آراء الصحابي الجليل عبدالله بن عباس وحول كل منهما كوكبة فريدة من أجلة الصحابة والتابعين ثم بماذا نفسر تبلور هذين الاتجاهين في مدرستين سامقتين من مدارس الفكر الاسلامي هما مدرسة الرأي لدي الامام الأعظم أبي حنيفة النعمان ومدرسة النص لدي الإمام الجليل أحمد بن حنبل؟! ثاني تلك الضوابط: أن منهج السلف وان كانت له هويته الذاتية وكيانه المتماسك, لكنه كان ملتقي فريدا لجميع الملكات الانسانية الرفيعة علي تنوعها وثرائها, فلقد وجدت فيه الفعالية العقلية ملاذها وموئلها كما وجدت فيه النسائم الروحية والوجدانية مجلاها ومراحها, كما وجدت فيه الاتجاهات الأخلاقية والسلوكية مستقرها ومستودعها!! وإلا فبماذا نفسر تلك المناقشات العقلية الرصينة التي واجه بها عبدالله بن عباس حرفية الخوارج وضيق آفاقهم؟ وبماذا نفسر النفثات الروحية المرهفة لدي الحارث المحاسبي والجنيد البغدادي وغيرهما. وبماذا تفسر تلك الشاعرية المجنحة والأحاسيس الوجدانية العفيفة لدي حسان بن ثابت, ثم لدي الشعراء الحجازيين كالأحوص وعبدالله بن قيس الرقيات؟ وبماذا نفسر ظهور الداعية الأخلاقي الأشهر: الحسن البصري ومدرسته الباذخة؟ ثالث تلك الضوابط: إن منهج السلف.. وان كان له هذا الجانب الفكري بثرائه وخصوبته, فقد كان له حضوره اليقظ في خضم الحياة الواقعية, ومجراها الدافق, ذلك الحضور الذي عبر عنه أحدهم بقوله( كانوا أقوياء علي الضالين والمخطئين, لقد كان السلف بهذا الحضور اليقظ يبتغون أن يضعوا الأمة الاسلامية في معترك الحياة بخيراتها وشرورها لكي تتمخض جهودهم عن إقامة مجتمع فاضل ينشد العدل والحرية ويجابه الظلم والقهر والاستبداد ولذلك فليس من المستغرب ان ينخرط السلف الصالح في تيار الحياة السياسية والاجتماعية الزاخر بالحيوية فيخطئون ويصيبون حسبما تهديهم اجتهاداته البشرية ولذلك فليس من المستغرب ايضا أن ينأوا بأنفسهم عن الجدل العقيم والخلافات النظرية الاعتقادية, فالحياة المائجة بالأحداث أكثر ثراء من أفانين الجدل ومنحنيات النظريات!! ثم أقول أخيرا.. فلتتأمل موقف السلف حق التأمل لنري أنهم كما كانوا أبرياء عن الجمود والتحجر فقد كانوا ايضا خصماء للتأخر والتقهقر, ولنري فيهم ايضا ذلك النموذج المثالي للانسان في قوة ارتباطه بالوحي والتزامه بالقيم وحرصه علي صلاح الدنيا وسعادة الآخرة.