إن الفطرة الإنسانية السوية تأبي الإهانة والتجريح للنفس أو للغير أو مقدساتهما, إذ طبعت علي تجنب الفاحش من الفعل والقول. والديانات السماوية جميعها تدعو إلي المحبة والتسامح بين الناس, في ظلال من الاحترام المتبادل. ومن ثم فإن الإساءة إلي أديان الآخرين تخل بذلك الاحترام وتشكل تعديا علي القيم الإنسانية النبيلة, وتؤدي إلي حدوث شروخ ومن ثم صراعات بين أصحاب الديانات والثقافات المختلفة. وأن جميع الحضارات والثقافات الراشدة تنبذ الكراهية العنصرية والدينية لما يمكن أن تسببه من مآس أو مظالم وقلاقل. من أجل ذلك تجرم معظم التشريعات الجنائية في الدول العربية والإسلامية, ومنها مصر, أفعال الإساءة إلي الأديان والرموز الدينية, والحض علي الكراهية الدينية, سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل. وكما لاحظنا جميعا فقد تكررت في السنوات الأخيرة أفعال التعدي علي المقدسات الإسلامية, وبات الساسة الغربيون يتناولون تلك الأفعال بالاستهجان تارة وبالتغاضي أو التنصل من مسئولية دولهم عنها تارة أخري. واستغل المغرضون بعض الأحداث الدامية وبخاصة أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 لتشويه صورة الإسلام والمسلمين, بالربط بين بعض ظواهر العنف والإرهاب وبين الإسلام ومصادره الأساسية من قرآن وسنة, كمبرر لمهاجمة الدين الإسلامي الحنيف, والتعدي علي مقدساته. وحقيقة الأمر في هذا الشأن أن هؤلاء إنما يصدرون عن جهل بحقيقة الإسلام محاط بالحقد والحمق, ومن ذلك ما اجترأ عليه القس الأمريكي جونز من تهديد بحرق المصحف الشريف, وعندما سئل عما إذا كان قد قرأه أفصح أنه لم يسبق له قراءته ولكنه يكرهه! وكأن كراهيته هذه هي عذره في حرقه. ولقد شاهدنا من قبل ما تسببت فيه ظاهرة الرسوم المسيئة في الدنمارك من تزايد الكراهية العنصرية ضد المسلمين, ومحاولة عزلهم عن المجتمع الذي يعيشون فيه, مما أدي إلي مضاعفة محنة الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب, وربما كان من انعكاسات ذلك وآثاره ما يحدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية حاليا. هذا وقد قرر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون, بتاريخ28 مارس2008, تعليقا علي مهاجمة الدين الإسلامي بفيلم( فتنة) إنني أدين بكل شدة إذاعة فيلم جيرت فيلدرز الهجومي ضد الإسلام, وليس هناك مبرر لخطب الكراهية أو التحريض علي العنف.... وإن الحرية يجب أن تكون مصحوبة بالمسئولية الاجتماعية. وكل ذلك يدعونا إلي القول بأن تهديد القس الأمريكي المتطرف بالإقدام علي حرق المصحف هو صورة أخري من صور الكراهية الدينية والإساءة ضد الإسلام والمسلمين. وخطورة تلك الإساءات أنها تؤجج من سعير النزعة العنصرية, وتزكي نار العنف, مما يشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين. وإذا كان الرئيس الأمريكي قد ذكر أن حرق المصحف عمل يخالف القيم الأمريكية, فإن من الواجب علينا أن نؤكد أن حرق المصحف هو عمل غير قانوني يستوجب المسئولية القانونية. ومن ثم فإن مقولة إن تدخل الرئيس الأمريكي أو مساعديه لمنع حرق المصحف يأتي من منطلق أخلاقي, هي مقولة غير صحيحة, لأن الصحيح أن هذا التدخل يجد أساسه وموجباته في التزام الدولة طبقا لقواعد القانون الدولي السارية بمنع الإساءة إلي الأديان وحظر الكراهية الدينية. فمسئولية الدولة لا تنشأ فقط من جراء تصرف مخالف لقواعد القانون الدولي أتته بنفسها أو عن طريق أحد الكيانات أو الأجهزة التابعة لها, ولكن أيضا نتيجة امتناعها عن إتيان تصرف تلتزم به وفقا للأحكام المنصوص عليها في المواثيق الدولية أو قواعد القانون الدولي السارية والتي منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والاتفاقية الدولية للقضاء علي التمييز العنصري بجميع أشكاله, وقد اعتبرت استهداف مجموعة أو طائفة من الناس علي أساس انتمائها الديني تمييزا عنصريا محظورا, كما نصت علي أن استهداف الأديان والرموز الدينية ذاتها بالازدراء أو التحقير يعد خرقا لقاعدة دولية تحظر الإساءة إلي الأديان. تشكل تلك الأفعال فوق ذلك تحريضا علي الكراهية الدينية وخروجا عن المبادئ التي تضمنتها القرارات الصادرة عن منظمة الأممالمتحدة ولجانها الفرعية بشأن مكافحة ازدراء الأديان, ومنها القرار183/50 لسنة1996 بشأن القضاء علي جميع أشكال التعصب الديني, وقرار لجنة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان لسنة2005 بشأن مكافحة ازدراء الأديان, وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم164/61 لسنة2007 بشأن مكافحة ازدراء الأديان. بل أن بعض الاتفاقيات الدولية السابق الإشارة إليها تخول الدول المتضررة الالتجاء إلي محكمة العدل الدولية لمطالبة الدول التي تقع مثل هذه الخروقات علي أراضيها بالتدخل لحظرها. إن عدم وضوح الحقيقة القانونية السالفة الذكر لدي الكثيرين في العالم ليدعو إلي أن تحرص الدول العربية والإسلامية علي وضع استراتيجية محددة وواضحة المعالم للتصدي لجميع صور الإساءة للدين الإسلامي, تستند إلي الآليات المتاحة بموجب ميثاق الأممالمتحدة وسائر الوثائق المشار إليها, والتي يمكن بمقتضاها مساءلة الدول المعنية عن الإخلال بالتزاماتها الناشئة عن تلك الوثائق في حالة امتناعها أو تقاعسها عن نبذ وحظر أي إساءات موجهة إلي الدين الإسلامي أو الرموز الدينية الإسلامية. ويشاركنا الرأي في إمكانية اللجوء إلي سبل الإنصاف القانونية الدولية هذه لمحاسبة الجهات المسئولة المختصون بآليات حقوق الإنسان بمنظمة الأممالمتحدة وهي المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان المعني بالقضاء علي جميع أشكال التعصب الديني وأشكال التمييز القائمة علي أساس الدين أو المعتقد, والمقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان المعني بحرية الدين أو المعتقد, والمقرر الخاص المعني بترويج وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير. والأسباب المتقدمة جميعها هي التي دعت منظمة العفو الدولية إلي الإعلان مؤخرا بمناسبة حادثة القس جونز- عن ضرورة تدخل حكومات الدول المعنية بإجراءات قوية لمواجهة الهجمات الموجهة إلي الإسلام والمسلمين. إن تحرك الدول العربية والإسلامية من خلال الآليات الدولية المتاحة دفاعا عن القيم والمقدسات الإسلامية لمساءلة الأجهزة والدول المعنية عما يمارس من تمييز عنصري ضد الأقليات المسلمة أو حض علي كراهية الإسلام, وإلزامها بحظر تلك الممارسات في تشريعاتها الوطنية هو في حقيقته تكريس لحقوق الإنسان التي كثيرا ما دعت إليها الدول الغربية. وإن مطالبة تلك الدول بتجريم مثل تلك الإساءات في تشريعاتها الوطنية لا تجد أساسها فقط في الاعتقاد الديني, بل أيضا في القيم الإنسانية البشرية وفحوي الثقافات والحضارات المختلفة, وفيما يمكن أن تسببه تلك الإساءات من تداعيات خطيرة علي الامن والسلم الدوليين.