لم يعد هدف التقدم الاقتصادي, والازدهار صناعيا وزراعيا, لغزا, أو قضية تستعصي علي التحقق في أيامنا هذه . وإلا فما الذي مكن دولا كانت الي سنوات قليلة مضت غير موفورة الحظ في الموارد, بل منها دول شهدت تجربتها بعيني لا تملك أرضا تزرع, أو موارد تصنع. ومع ذلك قفزت اقتصاديا, وبلغ دخل الفرد فيها الي نفس مستوي الدخل في أغني الدول البترولية ؟! الدول التي صنعت تقدمها في سنوات معدودات تتراوح بين15 و20 سنة, وأغلبها في آسيا وبعضها في أمريكا اللاتينية, انطلقت من نقطة بدء بنتها علي فلسفة للهدف الذي تريده, والكيان الذي تبغي أن تكون, وكانت نقطة البدء هي: وضع مشروع قومي للتنمية مدروس جيدا, ومحدد الهدف, يقوم علي أقصي استخدام للموارد المتاحة, وتطويع مواقع الندرة أو نقص الموارد, بتغيير نوعية استخداماتها, بما يجعلها مفيدة وليست عائقا. وفي كل هذه التجارب, ارتبط المشروع, ببذل كافة الجهود بشكل منظم حتي تتدفق الدماء في شرايين القطاعات التي تتكامل بها عملية التنمية من التعليم, والبحث العلمي, الي الدقة في اختيار القيادات التي تتولي إنجاز مايخص الخطة في قطاعها, وتحديد توقيت زمني لبلوغ الهدف المنشود, وآليات المحاسبة, والمساءلة. وكل ذلك في إطار مفهوم دولة القانون. وكذلك يحرص علي تحقيق أقصي استفادة من علم العلماء, والخبراء, وليس انفراد الوزير بالسياسة والخطة منفردا بها هو ومعاونوه, مستبعدا آراء وفكر وخبرة أهل المعرفة. وهنا يوجد خط فاصل بين التقدم والجمود, فالأول قضيته هي الانتاج, ومن أجلها يضع القوانين والقرارات التي تخدم هذا الهدف, وتزيل كافة المعوقات أمام إنجاز القدرة الانتاجية. أما الثاني فقضيته هي الاستيراد والمحافظة عليه, كتقليد وثقافة, حماية للعمولة, التي يتيحها الاستيراد, ويحرمهم منها الانتاج, فيعوقون خطاه. واذا ألقينا نظرة علي مصادر الانتاج المتاحة, في بلادنا فسنجد من بينها علي سبيل المثال لا الحصر: سيناء الذي كان قد وضع لتنميتها المشروع القومي لعام1994, الذي أوقف العمل به بعد سنتين من بدئه الصحراء الشاسعة التي تكون94% من مساحة مصر, والتي توجد لها في مصر مؤسسات علمية, انتجت دراسات وأفكارا, لكيفية الاستفادة منها كموقع للانتاج, والمعيشة, والتوطن, بما يخفف الضغط السكاني والمعيشي عن الوادي العمق المواجه للبحر علي الساحل الشمالي بطبيعته الصحراوية الجبلية, والصالحة لصناعات وزراعات بيئية, فضلا عن زراعة القمح. وهو ماسمعنا عنه كلاما كثيرا. يظل حتي الآن مجرد كلام مشروع المدينة الصناعية التكنولوجية المشتركة مع الصين, والذي وقع الاتفاق الخاص بها رئيسا وزراء مصر والصين في القاهرة في يونيو2006, ولم يوضع موضع التنفيذ حتي الان, وهو ما كان سيعود علي مصر بمكاسب في مجال الانتاج والتصدير, واكتساب المعرفة بالتكنولوجيا الجديدة, وتوفير فرص العمل. أضف إلي ذلك ما كان ينبغي أن يكون محل الاهتمام منذ سنوات, بوضع مشروعات للاستثمار المشترك لثروات وموارد غير مستغلة في إفريقيا, والتي راحت تتدفق عليها في السنوات الماضية وفود كبيرة من دول بعيدة عنها جغرافيا مثل الصين والهند وايران وتركيا وغيرها, فضلا عن اسرائيل, وكلهم جاءوا وفي جعبتهم مشاريع وخطط جاهزة, وضع الكثير منها موضع التنفيذ: اللافت للنظر والذي يتعارض تماما مع الاهتمام بالانتاج كهدف ومفهوم وفلسفة, هذا الاهدار المتصل منذ سنوات طويلة لمواقع منتجة, وتفريغها تماما من طاقتها الانتاجية, وهو ما جري ويجري مع البحيرات التي تردم أكبر مساحاتها جهارا نهارا. إن العالم مقبل علي عصر الندرة في الانتاج, خاصة الانتاج الزراعي, وهو ما ظهرت مؤشراته في أزمة القمح الأخيرة, ويفترض أن يكون ذلك حافزا لاحياء ثقافة ومفهوم الانتاج, وليس كثرة ترديد الاحاديث عن ضمانات الاستيراد, وكأنه هو الحل. إن مصر زاخرة بالعلماء وأصحاب الخبرة والمعرفة, وكثير منهم لديه اقتناع قائم علي فهم وعلم ومعرفة ودراسات استمرت سنوات, بأن مصر قادرة علي تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات, وانتاج ما يقرب من ثلاثة أرباع احتياجاتها من الغذاء, بشرط ان يكون الانتاج هو فلسفة الزراعة.. بل فلسفة التنمية. إن الانتاج في مختلف مجالاته لم يعد ينظر إليه كقضية اقتصادية فحسب, تلقي مسئوليتها علي الجهة التنفيذية المختصة, وذلك منذ صعدت القدرة الاقتصادية التنافسية إلي قمة مكونات الأمن القومي, أي أن الانتاج بمفهومه التنافسي صار عملية استراتيجية لابد من ان تدار من المنظور الاستراتيجي. ولنا أن نلاحظ ان الدول التي نجحت في تحقيق القدرة الاقتصادية التنافسية, القادرة علي أن تتجاوز بانتاجها حدود الدولة محليا واقليميا, إلي السوق العالمية, هي التي تحظي الآن باعتراف القوي الكبري, بأنها صارت مهيأة لتكون شريكا في ادارة النظام الدولي التعددي الجديد. وأن هذه القدرة تأسست قبل ذلك علي أساس متين في الداخل سياسيا, واقتصاديا, واجتماعيا, وثقافيا. .. هذا عصر قانونه التنافس, والذي يتجاوز النظرة إلي التنمية علي انها مجرد تنافس اقتصادي فحسب, فهو أشمل من ذلك وأبعد مدي, وهو مشروع استراتيجي شامل ومتكامل, ولم يعد بالنسبة لأي دولة تريد اللحاق بقطاره, لغزا أو مهمة عسيرة ومحبطة.