دفع الاقتصاد الغزاوي ثمنا باهظا للحرب والصراعات الداخلية والأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة. وليس الحديث هنا عن سنوات القضية الفلسطينية منذ نكبة1948. وإنما المقصود سنوات الانقسام الأخيرة التي أعقبت استيلاء حماس علي السلطة, حيث شهدت هذه الحقبة المستمرة حتي الآن ترديا غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية لم يشهده القطاع من قبل, خاصة أن حكومة حماس الحالية أثبتت أنها غير قادرة علي توفير المتطلبات الأساسية لمن تحكمهم. ووفقا للتقارير الواردة من القطاع, من مصادر فلسطينية وعربية وأجنبية, فإن الاقتصاد الغزاوي يعتمد حاليا علي ثلاثة مقومات أو محاور أساسية لكي يتغلب علي حالة الانهيار الحالي وهي: تهريب السلع والبضائع إلي داخل القطاع, عبور حدود القطاع للبحث عن فرص عمل في إسرائيل, الأنشطة الزراعية المحدودة والأخري الصناعية الأكثر محدودية التي لا ترقي حتي إلي تصنيفها تحت مسمي' الصناعة' بمفهومها الواسع. وقد يقول قائل إن هذا الوضع سببه إسرائيل بالدرجة الأولي, وهذا الأمر كان يمكن الركون إليه حتي ما قبل الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة, ولكن المشكلات القائمة الحالية سببها الحصار الاختياري الذي وضعت فيه حكومة إسماعيل هنية شعب غزة. وعلي الرغم من أن القطاع يعاني من كثافة سكانية مرتفعة ومحدودية الأراضي والموارد الطبيعية, فإن الاقتصاد نفسه لديه إمكانات حقيقية يمكن الاستفادة منها, ولكن مشكلته في أنه يعاني من الأوضاع الأمنية والسياسية السيئة الطاردة لكل أنواع الاستثمارات أو المناخ الاقتصادي السليم, بدليل أنه لو افترضنا جدلا سقوط أو ابتعاد هذه الحكومة' الآن' أو انتهاء حالة الانقسام الفلسطينية وتحقيق المصالحة علي أسس سليمة, فإن القطاع قادر علي النهوض سريعا من هذا الوضع, فعلي الأقل يستطيع قطاع الصناعة فيه أن يستعيد عافيته إذا تمكن من استئناف استيراد المواد الخام التي يحتاجها, فضلا عن تصدير ما ينتجه من سلع. صحيح أن هناك ممارسات إسرائيلية مجحفة وشديدة الضرر بالاقتصاد الفلسطيني في غزة, ولكن الوضع السياسي ما زال يمثل المشكلة الأكبر التي تمنع تحقيق أي تحسن في الموقف الإسرائيلي. وبعد أن بدأت مصر في اتخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة لحماية حدودها مع قطاع غزة, أصبح من الضروري ألا يحلم أبناء غزة باستمرار اعتماد اقتصادهم علي تجارة الأنفاق, والعمل علي إيجاد بدائل حقيقية مع توفير الأرضية اللازمة لذلك من مناخ سياسي ملائم ومستقر, والمقصود هنا هو المصالحة أولا قبل الحديث عن أي شيء آخر. وبنظرة سريعة علي أرقام اقتصاد غزة, فإن عدد سكانه5,1 مليون نسمة, الأغلبية العظمي منهم تعيش تحت خط الفقر بدولارين يوميا فقط, وهو ما يدفع الأممالمتحدة إلي التنبؤ بأن يظل القطاع يعيش علي المعونات الخارجية لعدة أعوام قادمة حتي في حالة تغير الأوضاع السياسية في غزة, وستكون هذه المعونات فقط من أجل أن يعيش أبناء غزة حياتهم العادية قبل الحديث عن حركة اقتصادية معقولة. ويبلغ متوسط الدخل للمواطن الغزاوي1230 دولارا في السنة وفقا لتقرير البنك الدولي لعام2007, ومعدل النمو لا يصل إلي1%, ومعدل البطالة أكثر من41% من قوة العمل الإجمالية التي تبلغ267 ألف نسمة. ومن المفارقات الغريبة في الحديث عن الاقتصاد الغزاوي, أن الشعب الغزاوي ربما يجدون علي أرفف محال السوبر ماركت ومحال البقالة أنواع الماركات العالمية من الحلويات والمواد الغذائية ولعب الأطفال, بينما قد يجد صعوبة في العثور علي السلع الأساسية, والسبب في ذلك هو أن تجار الأنفاق يبحثون عما يجلب المكسب لا ما يحقق المنفعة العامة, بدليل أن عددا كبيرا من العاملين في تجارة الأنفاق والتهريب والسوق السوداء هذه حققوا مكاسب مادية كبيرة من وراء هذه التجارة, وهم الذين يعتبرون تدمير الأنفاق ومحاصرتها من الجانبين بمثابة' خراب' عليهم. ومنعا للمغالطات, فالفارق شاسع بين تأثيرات الاعتداءات الإسرائيلية علي القطاع من تدمير للبنية الأساسية الغزاوية, والتي بلغت قرابة ملياري دولار, وبين تأثير الوضع الداخلي المتدهور الذي صنعته حماس بنفسها, والذي لا يهيئ الفرصة لأي مناخ اقتصادي حقيقي. إن الحديث عن اقتصاد قطاع أو إقليم أو دولة يجب ألا يكون عن تجارة تهريب وتمويل خارجي غير معروف الهوية من جمعيات وأطراف أخري, ولكنه يجب أن يكون عن نظام سياسي ثابت ومستقر ينجح في تطبيق إجراءات اقتصادية تصلح للتطبيق في الزمان والمكان وتلائم الظروف المحيطة حتي وإن كانت حصارا أو اعتداءات, ولا يتأثر بمعبر مفتوح أو مغلق أو بأي إجراءات أخري. [email protected]