بمقدار صدمتنا باستشهاد الجندي المصري علي حدودنا الشمالية, كانت صدمتنا باستشهاد عدد من المصريين في حادث مدينة نجع حمادي الاجرامي, والذين حاولوا التقليل من خطورة حادث الحدود. هم أنفسهم الذين حاولوا الاستهانة بما جري في إحدي مدن الصعيد, في حادث الحدود قلنا إن للصبر المصري حدودا, أما جريمة نجع حمادي, فلا تحتاج لصبر أو انتظار, فعلي الرغم من أن الجريمة ووقائعها تشير, وفقا لتحقيقات الشرطة والنيابة, إلي أنها ذات طابع جنائي وصاحبها مسجل خطر, إلا أن جوهرها في الحقيقة, طائفية, وأعتقد أن ما نحتاجه الآن هو أن نصل للحقيقة ولانخشاها وأن نتكلم بوضوح وأن نصارح أنفسنا ونعترف, أن المناخ المصري أصبح مسموما ومختنقا بأجواء وسحابات دينية طائفية, غريبة عنه, استطاعت أن تعكر صفو السماء المصرية التي تظلل كل المصريين, ومنذ أواخر السبعينيات وحتي الآن نجحنا في تطويق كل حادث علي حدة, واكتفينا بإصدار البيانات والحديث عن النسيج الواحد, وموائد افطار الوحدة الوطنية. وأنا في طريقي البري بين محافظتي الأقصروقنا لأصل لمدينة نجع حمادي عقب الحادث بيومين اثنين لاحظت تواضع حياة ومعيشة أبناء محافظة قنا خصوصا في بناء منازلهم, ولكني لاحظت أيضا كثرة وجود المساجد والكنائس وتلاصقها في بعض الأحيان, فقلت لنفسي إن قري ومدن هذه المحافظة الفقيرة, مثلها مثل كل المحافظات المصرية, لاتحتاج لمثل هذه الأعداد من المساجد والكنائس, بل تحتاج لطرق جديدة ومدارس ومستشفيات ومراكز صحية, ودور أيتام, وصرف صحي ومياه نقية ومشاريع صناعية وزراعية يعمل فيها آلاف العاطلين عن العمل, فضلا عن مساكن جديدة تستوعب هذه الكثافة السكانية المتزايدة, وسألت كنوع من محاولة للفهم عن تاريخ بناء كل مسجد وكنيسة, خصوصا إذا كان البناء ان متلاصقين, فتأكد لي أنها ظاهرة لا تقتصر علي محافظة معينة, بل أصبحت حالة عامة, وهذه قصة أخري ربما تفسر هذا السباق المحموم علي بناء دور للعبادة, علي مسافات متقاربة, وفي الطرق العامة والميادين وداخل الحدائق وعلي الشواطيء, ومن نفس النوع وكأن الهدف هو البناء, والبناء فقط لزيادة العدد!!. وهذه الحالة هي جزء من مناخ عام تم صنعه بهدف تقسيم المصريين وإضفاء الطابع الديني الطائفي علي كل مظاهر حياتهم. لقد كان الغضب الذي انتاب كل المصريين وجعل كل مؤسسات الدولة تتحرك بشكل سريع موفقا, وحقق هدفه في تطويق تداعيات الجريمة وتهدئة النفوس وعودة الحياة إلي طبيعتها في نجع حمادي, ولكن يظل السؤال قائما, ما الذي يضمن لنا في ظل هذه الأجواء, عدم تكرار مثل هذا الحادث؟ والاجابة عن هذا السؤال تقتضي طرح عدد من الحقائق والأسئلة علي أنفسنا, وربما تكون أولي هذه الحقائق هي الاعتراف بمسئوليتنا جميعا إزاء ما حدث, وما وصلنا إليه من مناخ وصل إلي حد الاستقطاب الطائفي, فنحن نجني ما زرعناه بأيدينا, وعلينا أن ننتقل لطرح الأسئلة علي أنفسنا. من المسئول عن تراجع أفكار العدل والتسامح وحق الاختلاف في المجتمع؟ ومن الذي تسبب في انتشار أفكار التطرف والعنف والتمييز بين المصريين؟ ومن الذي حاصر كل فكر منفتح, يؤمن بالحوار والمساواة بين البشر وحق الإيمان والاعتقاد والابداع؟ ومن الذي قسم المصريين علي أساس ديني في الإعلام والمناهج الدراسية والحياة اليومية؟ ومن الذي صبغ المجتمع بصبغة دينية وأعطي للأماكن والمحلات والتجمعات السكنية أسماء ومعاني كانت تستخدم منذ قرون؟ ومن اسهم في خلق مرجعيات تم استخدامها سياسيا وامتد دورها وصلاحية فتاويها للهندسة والطب والاقتصاد حتي وصل إلي رصف الطرق!؟ ومن المسئول عن استبدال القانون بالعرف في جرائم سابقة وأسقط حق الدولة والمجتمع في تنفيذ القانون؟ وأخيرا من الذي رضخ لابتزاز مؤسسات دينية وسعي لكسب ودها وسمح لها بلعب أدوار غير دورها الديني, بل طلب الفتوي وأحيانا البركة منها فسقط في خطأ تديين الدولة, برغم أن الدولة ككيان من المفترض أن تعتنق دينا معينا, والكارثة أنها اعتنقت اثنين, مرة عندما تطلب الفتوي, وأخري عندما تطلب البركة!! قد تكون هذه الأسئلة قديمة وقد يكون لها امتداد وتواصل يمتد لسنوات, ولكنها ضرورية ومهمة لمعرفة ما وقعنا فيه من أخطاء تصل بعضها إلي حد الجرائم, لقد أوصلتنا جريمة نجع حمادي لحالة مهمة من اليقظة والانتباه, ولعل التقرير الذي أعده المجلس القومي لحقوق الانسان وسيقدمه للقيادة السياسية هو أعلي درجات هذه اليقظة الحقيقية, لقد وضع التقرير يده علي طبيعة التوتر الطائفي في البلاد ويتضمن نحو20 اقتراحا وتوصية تتعلق بدور كل مؤسسات الدولة والمجتمع لمواجهة هذه الأحداث ومنع تكرارها وايجاد حلول لها, كان أبرزها ضرورة دعم المشاركة الكاملة بين أشقاء الوطن في جميع المجالات الرسمية والمدنية دون أي تمييز, وزيادة تمثيل المسيحيين في الحياة السياسية والوظائف العامة علي مختلف مستوياتها وفقا لمعايير الكفاءة, ومواجهة كل من يهدد وحدة البلاد الوطنية سواء كان تعصبا دينيا أو جنوحا طائفيا ومعاقبة كل مسئول يثبت ارتكابه جريمة للتمييز, والإسراع في اتخاذ إجراءات عملية لتأكيد الصفة المدنية للدولة القائمة علي مبدأ المواطنة, وترجمة المادة الأولي من الدستور بمشروعات قوانين لتحويلها إلي واقع ملموس, يدعم قواعد المساواة وعدم التمييز وفق اللون والجنس والعقيدة والدين, وأهمية تقييم بعض البرامج التي تقدمها وسائل الإعلام, واعادة النظر في الخطاب الإعلامي والديني والمناهج الدراسية, ومعالجة الجرائم التي تحدث بأسلوب رادع ووفقا للقانون, ودعوة خطباء المساجد والكنائس لمراجعة خطابهم وعظاتهم داخل وخارج دور العبادة, والإسراع في إصدار قانون تنظيم وبناء دور العبادة مع تأكيد وحماية حرية إقامة الشعائر والاعتقاد ومبدأ المساواة والعدالة بين المواطنين والكف عن محاولات تقسيم المصريين وتديين الدولة, هذه هي رؤية أحد أهم مجالسنا القومية وهي رؤية وطنية, وضعت يدها علي الجرح, وحددت أوجها كثيرة للعلاج وهي خطوة أولي نحن معها وباختصار شديد إذا كنا لانريد تكرار جريمة نجع حمادي, فعلينا أن نبدأ من الآن, فالمشوار لايزال طويلا.. والحل النهائي حتي تنقشع غيوم الأزمة في أن تظل مصر دولة مدنية لكل المصريين.