لاشك في أن زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية إلي اليونان أخيرا و حفاوة الاستقبال التي لاقاها من قبل أثينا تجعلنا نفتش بدقة عن سبب هذه الزيارة. و ما الهدف منها و ماذا تطوي من أسرار.فربما ظاهريا تقودنا إلي العلاقات الثنائية و محاولة تحسينها مادام الركود والخلاف عنوان العلاقات بين البلدين نظرا لمساندة بلاد الإغريق مولد الديمقراطية للمشكلة الفلسطينية والتضامن مع قضايا الشرق الأوسط. لم يكن أحد يتوقع أن الحكومة الاشتراكية لرئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو و المنتخبة فقط منذ أقل من عام تستقبل بنيامين نيتانياهو في هذا الوقت بالذات و الذي باتت فيه إسرائيل وحيدة تواجه المجتمع الدولي الحر يشار إليها بإصبع الاتهام حيال ما قامت به من هجوم دموي علي نشطاء سلام كانوا علي متن أسطول الحرية أثناء محاولتهم نصرة شعب فلسطين و فك الحصار علي قطاع غزة وهذا ما علت به أصوات المعارضين في اليونان واتهموا الحكومة بالاستفزاز والخطأ. وجاءت ردود أفعال أحزاب المعارضة اليونانية قوية الانتقاد حيث جاء في بيان للحزب الشيوعي أن الحكومة اليونانية تستفز الشعب و العالم في استقبال هذه الزيارة و تساند إسرائيل في وقت حاسم تواجه فيه تل أبيب انتقادات واسعة من جهات دولية مختلفة. وسارع زعيم حزب الديموقراطية الجديدة أكبر أحزاب المعارضة اليونانية أنطونيس ساماراس إلي تنبيه الحكومة بضرورة اتخاذ الحذر الكبير لعدم تخريب علاقة اليونان مع العرب. أما المتحدث الرسمي باسم الحزب التقدمي فذكر أن الزيارة غير مرغوب فيها و أن الحكومة أخطأت في أن تختار هذا الوقت بالذات لفتح علاقات سياحية ومالية وخصوصا عسكرية مع تل أبيب وهذا يعرض البلد لمخاطر كبيرة ويدخل اليونان في انتقادات هجومية وعدوانية وفي دائرة العنف والدمار غير المنتهية للعدوان الإسرائيلي. و وفقا للمراقبين فإن زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية إلي اليونان لم تكن إلا رسالة إلي تركيا المتخاصمة معها- مفادها أن اليونان هي الحليف الإستراتيجي الجديد في المنطقة الذي بإمكانه سد الفراغ الناشئ والذي يمكن أن يستمر فيما لو واصلت تركيا نهجها الراهن في التعامل مع الدولة العبرية. أما تركيا فقد أعلنت بالأمس القريب أن اليونان لم تكن خطرا علي تركيا و هذا وفقا لما أعلنته وثيقة استراتيجية تحدد كل الأخطار والتهديدات التي تحيط بتركيا و قد يأتي هذا التعديل بسبب تشكيل مجلس للتعاون الاستراتيجي بين الدولتين اللتين أصبحتا تنظران إلي حوض بحر إيجه كمنطقة تعاون. كما أن تركيا التي تنتهج منذ سنوات سياسة التقارب مع اليونان تعي حقيقة التقارب مع إسرائيل وبالتالي فهي لا تشعر بقلق من مبادرة باباندريو بتعزيز العلاقات مع إسرائيل في هذا الوقت بالتحديد, ويؤكد المراقبون أن تركيا تبقي التحدي الرئيسي في السياسة الخارجية لليونان ولذا لا معني لإغضاب أنقرة بالانخراط في السياسات الكبيرة. وقد ظلت اليونان حليفا تقليديا للعرب منذ فترة طويلة و لم تقم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل إلا في عام1990 وكان الموقف من القضية الفلسطينية أحد العوامل التي قربت بين الطرفين خاصة بعد ظهور دراسات في الأوساط الأكاديمية اليونانية بأن الفلسطينيين هم أحفاد اليونانيين وأن الأوائل جاءوا إلي فلسطين من الجزر الإغريقية. و لكن إسرائيل وبتفكير محسوب جيدا وجدت ضالتها في اليونان لتحل محل تركيا كحليف استراتيجي وبديل متميز في الشرق الأوسط لاسيما أن اليونان لا تقل أهمية ستراتيجية عن تركيا وهي عضو في حلف شمال الأطلسي(الناتو) وتقيم علاقات متميزة مع الدول العربية و الإسلامية وتقع شمال البحر المتوسط وهي منطقة تريد إسرائيل أن تؤمنها لحسابها. وعن التعاون العسكري بين إسرائيل و اليونان لن يكون جديدا فهو قائم بينهما منذ سنوات وشهد العام2008 مناورات جوية واسعة للطيران الإسرائيلي في الأجواء اليونانية بمشاركة منظومات صواريخ أس300 اليونانية. ومع أن نيتانياهو ركز في مباحثاته في أثينا علي الشئون العسكرية والأمنية والاستخبارية واتفق مع محاوريه اليونانيين علي معاودة التدريبات العسكرية المشتركة إلا أن كبار المراقبين شككوا في إمكانية أن تعوض اليونان الضرر الناجم عن الانقلاب في العلاقات بين تل أبيب و انقره موضحين أن حجم تركيا الجغرافي و السياسي جعلا منها في السنوات الماضية أكبر مستهلك للصناعات العسكرية الإسرائيلية كما أن إسرائيل سوف تواجه صعوبات في اختراق السوق اليونانية التي تخضع لسيطرة الصناعات الأمريكية والأوروبية. كما أن تركيا تمثل عمقا إستراتيجيا ضروري لإسرائيل و ذلك لمواجهة عدوها اللدود إيران و هذا العمق لا تتمتع به اليونان و لكن نيتانياهو أكد أن التحول النوعي في العلاقات بين إسرائيل واليونان هو تصحيح لركود ثنائي استمر62 عاما بين البلدين و لكن الدوائر السياسية تؤكد أن هذا التقارب جاء لحساب الولاياتالمتحدةالأمريكية و إسرائيل من جهة كلعبة إقليمية و في المقابل تركيا من جهة أخري. و علي مدي عدة أيام امتلأت الصحف اليونانية و التركية بأسئلة وتحليلات عن موجبات الاستعجال في فتح صفحة تاريخية جديدة بهذا الشكل بين دولة الاحتلال واليونان لتصب معظم الكتابات في النهاية في خلاصة واحدة هي أن نيتانياهو وباباندريو لم يفعلا سوي مواصلة تطبيق القاعدة التي تسير عليها العلاقات الدبلوماسية بين دولتيهما منذ اعتراف اليونان بدولة الاحتلال وخصوصا منذ رفعت اليونان تمثيلها إلي مستوي السفارة في تل أبيب في التسعينيات.