في اللقاء الذي جمع د. فتحي سرور رئيس مجلس الشعب مع نخبة من مفكري وكتاب مؤسسة الاهرام, في الصالون الثقافي والفكري الذي ينظمه معهد الأهرام الاقليمي للصحافة, مستهدفا إثراء الحوار العام عبر مناقشة حرة ومسئولة للقضايا الكبري التي تهم الوطن حاضره ومستقبله, قال د. سرور ان نظام القائمة الحزبية هو الافضل من حيث المبدأ للانتخابات, ولكنه يحتاج إلي أحزاب قوية تكون موجودة في الشارع السياسي, وهذا ليس قائما في مصر. الاحزاب القوية الفاعلة هي شرط أساسي ليس بحاجة إلي نقاش, وهي قاسم مشترك بين كل الدارسين للنظام الحزبي في مصر, وكل الناشطين سواء كانوا حزبيين أو مستقلين. فالواقع المصري يعرف بالفعل الحياة الحزبية منذ عام1976, أي أن عمر التعددية الحزبية يزيد علي34 عاما متصلة, ومع ذلك يوجد اجماع علي أن الأحزاب باستثناء الحزب الوطني الحاكم, لا تأثير كبير لها في الحياة السياسية, صحيح هي موجودة, وتصل الآن إلي23 حزبا قانونيا, وتتضمن برامجها كثيرا من الأفكار النيرة والعملية, ولكن غالبيتها الساحقة مرتبطة بقيادة شخصية او مجموعة محدودة العدد, وللأسف الشديد تكاد تحتضر إلا بعض أحزاب لا تزيد علي ستة أحزاب. وحتي هذه الأحزاب الستة ومع الأخذ في الاعتبار الفوارق الكبيرة بينها من حيث تاريخها وانتشارها النسبي والصخب الاعلامي الذي تستطيع أن تقوم به أحيانا, فهي غير فاعلة بالمعني المتفق عليه في دراسات النظم السياسية والحزبية. مفهوم الفاعلية ببساطة يتعلق بقدرة الحزب علي الانتشار في المجتمع, والتجديد الذاتي من حيث الأفكار والبرامج والشخصيات القيادية عبر انتخابات داخلية ديمقراطية, وإرادة المنافسة من أجل الوصول إلي السلطة وفقا للآليات القانونية والدستورية المعمول بها وعبر صندوق الانتخابات الشفاف والنزيه, وجذب التأييد من الناس والحصول علي الشرعية والرضاء منهم لمواقفه وسياساته. بمعني آخر وموجز فإن الفاعلية تعني قدرة الحزب علي الفوز في الانتخابات العامة ومن ثم تشكيل الحكومة وتطبيق البرامج التي حصل من خلالها علي تأييد الناس. إذا طبقنا هذا المفهوم علي الأحزاب المصرية فسوف نجد أن لا أحد منها تنطبق عليه هذه الشروط, ولا أحد منها يأمل في الانتخابات النيابية أن ينافس من أجل الوصول إلي السلطة التي هي هدف أي حزب سياسي, وكل ما يأمله أي حزب هو الحصول علي عدد معتبر او حتي محدود لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المقاعد في البرلمان تثبت وجوده في الحياة السياسية, وتؤكد شرعيته وجماهيريته النسبية مقارنة بالأحزاب الاخري ليس من بينها الحزب الوطني الحاكم. كذلك فالوجود في البرلمان يسمح بالمشاركة في عملية الرقابة علي القوانين وعلي أداء الحكومة والمؤسسات العامة, والمشاركة في العملية التشريعية بوجه عام من خلال إبداء الملاحظات علي التشريعات المقدمة, وهي مشاركة مهمة ولكنها لا تغني عن الهدف الأصيل لاي حزب وهو المنافسة علي السلطة. إذن الطموح السياسي للأحزاب نفسها محدود, وهنا تكمن المشكلة الكبري والتي تعود بعض أسبابها إلي أداء الأحزاب نفسها, وبعضها الآخر في مجمل البيئة السياسية والتشريعية. وبرغم خلافات الأحزاب فيما بينها, فإنها تتفق علي أن ضعفها ومحدودية انتشارها هو أمر يسأل عنه النظام السياسي ككل, الذي صاغ قبل ثلاثة عقود صيغة التعددية الحزبية المقيدة, ووضع شروطا قاسية أمام أي جماعة تريد تكوين حزب لكي ينال شرف الوضع القانوني والشرعي. وأحد أكبر المطالب التي تنادي بها القوي السياسية المختلفة هو أن يكون تكوين الأحزاب عبر الاخطار وليس من خلال التقدم إلي لجنة الأحزاب ذات الطبيعة الإدارية كما هو الوضع الراهن, والتي تعتبرها الاحزاب مرهونة بإرادة الحزب الوطني الحاكم, ولا تسمح بأحزاب الا إذا كانت بلا جماهيرية وغير قادرة علي المنافسة الحق أو المشاركة الفاعلة. مطلب الاخطار وحسب, وإن سمح بحرية تكوين الأحزاب, لا يعني بالضرورة أن ذلك سوف يقود إلي حياة حزبية سليمة وذات عافية تقود إلي ديمقراطية نموذجية. فالمرجح أن تشهد البلاد مرحلة من توالد الأحزاب السياسية ذات القيمة وأخري عديمة النفع, ومن ثم يحدث تشرذم العمل السياسي. وثمة من يرد أن هذا الاحتمال, وإن دعمته بعض تجارب دولية, فهو لا يكون إلا لمدة زمنية محدودة, إذ بعدها يحدث الفرز بين الاحزاب القادرة علي البقاء وتلك التي سينتهي وجودها تلقائيا إذا ما فشلت في تعزيز حضورها بين الناس أنفسهم. غير أن تصور أن تشهد مصر هكذا مشهدا مستقبليا يبدو شديد الصعوبة, خاصة في ضوء التداخل بين الديني والسياسي الحادث الآن في المجتمع المصري, ناهيك عن تحفزات قوي خارجية عديدة تجاه كل ما يجري في مصر. وكثيرا ما تشكو الاحزاب القائمة من أن هناك تدخلات خارجية تؤدي إلي انشقاقات داخلية, تدفع الحزب إلي الانهيار أو الضياع أو فقدان المصداقية, بعد أن فقد جهده وطاقته في الدعوة لنفسه بين الناس. والتلميح هنا عادة ما يذهب إلي حد توجيه الاتهام بأن هذه التدخلات إما من الحكومة أو من الحزب الوطني أو من جهات أمنية تريد تفجير الحزب خاصة إذا ما بدت عليه سمات الفاعلية واحتمال منافسة الحزب الحاكم. وبعيدا عن هكذا اتهامات فإن الكثير من الأحزاب التي شهدت انقسامات داخلية كانت بسبب النزاع علي سلطة قيادة الحزب بين شخصيات تري كل منها أحقية في القيادة وفي السيطرة علي مقدرات الحزب, وبعض هذه المنافسات تكون بين قيادات أسست الحزب وأخري انضمت إليه لاحقا وتعمل علي التمكن من الحزب جملة وتفصيلا. وقد رأينا هذه الصراعات في أحزاب الأحرار والعمل والعدالة الاجتماعية ومصر الفتاة, والغد, كما مر الوفد بفترة صراع داخلي في عام2006 لاسباب خاصة بقياداته أنفسهم وليس بسبب تدخلات خارجية. ومثل هذه الصراعات الحزبية الداخلية تلعب دورا مهما في تشتيت قدرات الحزب أو توقفه أو تجميده بقرار من لجنة شئون الاحزاب. وفي المحصلة صرف الناس عنه. ويعيب البعض علي النظام الحزبي المصري بأنه لا يستوعب كل القوي الفاعلة, وأنه يغيب قوي ذات تأثير سياسي كبير, وأنه غير قادر علي استيعاب الحركات السياسية الجديدة التي تنشأ بفعل الحراك السياسي ومساحة الحرية الكبيرة في التعبير. فهناك الخارجون عن الحالة الحزبية مثل جماعة الاخوان المسلمين, وحركة كفاية وحركة دعم ترشيح د. محمد البرادعي للرئاسة, والحركة المصرية للتغيير وحركة شباب السادس من ابريل, وغيرها. بيد أن هناك من يري أن بعض هذا التغييب مقصود, لاسيما تجاه القوي التي تتجاوز الأسس الدستورية والقانونية المعمول بها. فمثلا يمنع الدستور والقانون أن يتشكل حزب سياسي استنادا إلي أسس فئوية أو دينية أو مناطقية, أو يتضمن في برنامجه تشكيل ميليشيات عسكرية أو أن يكون ذا صلة بأحزاب أو تنظيمات دولية أو إقليمية. وهذه الشروط مطلقة وإن كانت تمنع الشرعية أو تحجبها عن حركة الاخوان مثلا, فتطبيقها معزز وثابت علي كل الانشطة الحزبية دون استثناء. بل إن الشرط المانع للعمل العسكري موجود في قانون تكوين الجمعيات الأهلية أيضا التي هي صلب العمل المدني. وبعبارة أخري فإن النظام العام يحول دون منح شرعية كحزب أو كجماعة مدنية لأي قوة أو حركة, حتي ولو كان لها أنصار كثر, لكنها تؤمن بالعمل العسكري او الانقلابي. والمسألة هنا هي في ضرورة أن تخضع القوي السياسية للقواعد الدستورية وليس العكس. والأمر علي هذا النحو من شأنه أن يمثل تحديا لكل من يؤمن بالخلط بين الدين والسياسة أو توظيف القوة والعنف في الحياة السياسية. فإذا ما حدث مثل هذا الخلط الأخير تحديدا نصبح أمام فعل إرهابي وليس فعلا سياسيا. هذه الاشكاليات العامة التي تحد من فعالية الأحزاب السياسية القانونية تعد مسئولة جزئيا عن إخفاق الاحزاب في الانتخابات البرلمانية, والتي بدورها لا تخلو من شكاوي من كل الأحزاب. وأبرز الشكاوي تشمل التزوير والعنف والبلطجة وسيطرة رأس المال وتدخل اجهزة الدولة والمحليات في العملية الانتخابية وغياب الاشراف القضائي في الانتخابات, ومن ثم غياب تكافؤ الفرص. فضلا عن أن الانتخابات تجري وفق النظام الفردي, وهو النظام الذي يسمح لغير الحزبيين بأن يحصلوا علي نصيب الأسد مقارنة بما يمكن أن تحصل عليه الأحزاب نفسها. بيد أن الأحزاب نفسها وبرغم مطالبتها بتطبيق القائمة الحزبية, فإنها تبدو غير واثقة من نفسها, ولذا لا تشدد كثيرا علي أولوية تطبيق هذا النظام. فرغم عيوب النظام الفردي ما زال هو القناة التي تسمح لبعض القيادات الحزبية في الاحزاب الصغيرة أن تصل إلي عضوية البرلمان, ليس بصفتها الحزبية وإنما بعلاقاتها الشخصية وحضورها المعنوي في دائرتها الانتخابية. والصحيح هنا أن مطلب الأحزاب الأكثر بروزا الآن يتعلق بإيجاد ضمانات لنزاهة وشفافية الانتخابات البرلمانية المقبلة, والحد من تدخل الجهات الادارية والأمنية في العملية الانتخابية, وهو مطلب لا يمكن الوقوف ضده من حيث المبدأ. لكن يظل السؤال المركزي هل لو تحققت هذه الضمانات علي خير وجه, هل ستحصل الأحزاب, في ظل وضعيتها الراهنة, علي فرصة لاختراق حقيقي للبرلمان المقبل؟ كثير من المراقبين يشكون في ذلك. فضعف الأحزاب وللأسف الشديد هو أكبر من أي ضمانات.