تتعريض الولاياتالمتحدة لاختبار أخلاقي قاس أمام العالم أجمع من خلال ذلك الجدل الكبير الدائر الآن داخل مختلف قطاعات الرأي العام حول اقامة مركز إسلامي بالقرب من موقع انفجارات11 سبتمبر المعروف باسم جراوند زيرو وهو الاختبار الذي سيحدد إن كانت الولاياتالمتحدة هي بلد الحريات والدستور الذي تنص علي حرية العقيدة الدينية للجميع, أم أنها بلد التعصب الذي يشهد عليه تاريخها مع الزنوج والأقليات. فقد انفسم الرأي العام الأمريكي بشكل حاد ما بين مؤيدي إقامة المركز الإسلامي الذي يضم مسجدا, وهم يرون في ذلك دليلا علي روح التسامح واثباتا بأن المدان في أحداث11 سبتمبر2001 ليس الدين الإسلامي, وإنما الإرهاب, بينما يري المعارضون أن في اقامة هذا المركز استفزازا لمشاعر عائلات ضحايا تلك الانفجارات, وقد وصل هذا الجدل إلي حد قيام المظاهرات علي الجانبين ثم شارك أخيرا في الجدل الرئيس باراك أوباما حيث أعلن تأييده لاقامة المركز, بينما وجدنا مرشحة الرئاسة السابقة سارة بيلين تبدي معارضة شديدة للمشروع. ويتزعم حملة المعارضة واحدة من كبري المنظمات اليهودية في الولاياتالمتحدة وهي عصبة معاداة السب والقذفAnti-DefamationLeague التي يقول ميثاقها إنها تعمل علي محاربة التفرقة العنصرية ضد أي جماعة أو طائفة من المواطنين أو السخرية منهم وإن كان تاريخها قد أثبت أنها في معظم الأحيان لم تكن تقصد بتلك الجماعة أو الطائفة إلا اليهود, وقد قام الصحفي الأمريكي الكبير فريد زكريا رئيس تحرير مجلة نيوزويك برد الجائزة التي منحتها له العصبة قبل خمس سنوات, والبالغة قيمتها عشرة آلاف دولار قائلا إن ضميره لن يكون مرتاحا لقبول جائزة من جهة تعارض الهدف الذي يفترض أنها قامت من أجله, وتقف مع التعصب والتفرقة ضد احدي جماعات المجتمع الأمريكي. وقد انتقد فريد زكريا بشدة في مقاله الافتتاحي بالعدد الأخير من نيوزويك تصريحات رئيس العصبة أبراهام فوكسمان الذي قال فيها إن علينا جميعا أن نحترم مشاعر عائلات ضحايا11 سبتمبر حتي لو قامت هذه المشاعر علي التحيز باعتبار أن أحزانهم تعطي لهم الحق في اتخاذ مواقف متحيزة, وغير عقلانية وقد رد عليه زكريا قائلا إن عائلات الضحايا أنفسهم مختلفون حول هذا الموضوع, وأن هناك منهم من يرون في إقامة المركز الإسلامي ليس فقط تأكيدا للتسامح الديني ولحرية العقيدة, بل أيضا تشجيعا للإسلام الحقيقي الذي لا يعرف التعصب والإرهاب, وقال إنه لو كان للإسلام أن يشهد حركة إصلاح, فإنها لن تنشأ إلا من خلال مثل هذه المراكز, وأضاف أن ضحايا الانفجارات كان من بينهم مسلمون أيضا, ثم قال ألا يجب احترام مشاعر عائلات هؤلاء أيضا علي أن ما حدا برئيس تحرير أهم المجلات السياسية الأمريكية لرد جائزته هو قول فوكسمان إن التعصب والتحيز والتمييز مقبول إذا كان أصحابه ضحايا يشعرون بالظلم, حيث قال لرئيس الجمعية التي تحارب العداء للسامية: هل يصبح العداء للسامية في هذه الحالة مقبولا من الفلسطينيين الذين يشعرون أيضا بالظلم؟ وإذا كان الجدل علي مستوي الصفوة قد اتخذ شكلا عقلانيا يعتمد علي الحوار ومقارعة الحجة بالحجة, فإنه علي المستوي الشعبي عبر عن نفسه بشكل ينم عن الكثير من التعصب, وقد جسدت هذه المشاعر اللافتات التي حملها البعض في المظاهرات التي عمت البلاد من واشنطن ونيويورك إلي تكساس وكاليفورنيا, والتي لم تكتف برفض إقامة المركز الإسلامي, وإنما قال بعضها علي سبيل المثال: المساجد هي معاقل الإرهاب ولن تطبق علينا الشريعة الإسلامية. ووسط هذا الانقسام الكبير داخل المجتمع الأمريكي يبرز السؤال: أي من الجانبين يمثل حقيقة الشعب الأمريكي؟ وأغلب الظن أن الجانبين يمثلان هذا الشعب كلا بطريقته, فالأمريكيون مثل كل الشعوب منهم المتعصب, ومنهم المتسامح, فأي منهما سيتم تغليبه؟ لقد شهدنا خلال رئاسة جورج بوش الابن تغليبا مقصودا لمشاعر التعصب ضد المسلمين والعرب, التي سمحت للرئيس بشن حروبه الصليبية ضد العراق وأفغانستان, لكنا وجدنا الرئيس الحالي باراك أوباما يتوجه إلي الجانب الآخر من الشخصية الأمريكية التي تؤمن بالحريات التي نص عليها الدستور, وقامت عليها الدولة, لكن الجدل الدائر الآن, والذي يكتنف الولاياتالمتحدة كلها, إنما يثبت أن الصراع مازال دائرا بين الدكتور جيكل, والمستر هايد داخل المواطن الأمريكي, وأنه في الوقت الذي نجح بوش في تغليب الجانب السلبي في الشخصية الأمريكية, فإن أوباما مازال غير قادر علي تغليب الجانب الإيجابي بنفس القدر. من هنا فإن الاختبار الحقيقي الذي يمثله الجدل حول المركز الإسلامي المزمع إقامته بالقرب من جراوند زيرو هو اختبار لسياسات باراك أوباما التي إما ستنجح في استنهاض الجانب الايجابي في الشخصية الأمريكية أو أن الجانب السلبي الذي غلبه بوش سيظل هو السائد.