تابعت باهتمام واغتباط مقالات كاتبنا الاجتماعي الخصيب السيد يسين في صحيفة الأهرام حول مشروع انعقاد قمة ثقافية عربية, وعن الجهود المبذولة في الإعداد لهذا العمل الجليل من الهيئات الثقافية العربية المعينة. وسوف يصبح نتاج أعمالها أساسا لجدول أعمال قمة الرؤساء والملوك العرب, والأمل وطيد وملح في أن تنعقد, وألا تجرفها مشاغلها وأزماتها وأحداثها المتلاحقة داخلية وخارجية, كما جري لمصير مشروع شبيه مماثل حين سعت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية منذ ثلاث سنوات إلي صياغة مشروع لقمة عربية لاعتماد استراتيجية للتعليم العربي, وفي تصوري أن عقد قمة ثقافية عربية وتربوية إنما يمثل أحد الأعمدة الرئيسية في تأسيس بنية بيت المعرفة العربي. إننا نعيش في زمان أيا كانت تسميته لا تتحدد مقومات البقاء والنماء فيه بالاقتصار علي قوة السلاح أو امتلاك الثروة, وإنما تتحدد قبل هذا وذاك بامتلاك مفاتيح العلم, والقدرة المتواصلة علي توظيفها في الإنتاج, وعلي ايجاد الثورة واستثماراتها, لقد غدت المعرفة قوة, ولم يعد معيار التقدم الحقيقي في استدامته مكتفيا بما هو متبع اقتصاديا من مقياس نمو الناتج المحلي الاجماليGDP وإنما يفضله ويتميز عنه اليوم ما يعرف بمعيار الرصيد أو المخزون القومي المعرفي ونموه.NationalInformationreserveNIR. كذلك غدت الميزة النسبية في الانتاج معتمدة في المقام الأول علي توفير المعرفة الفاعلة, بعد أن كانت معتمدة إلي حد كبير علي توافر الموارد الطبيعية ورأس المال وقوة العمل. كذلك أصبحت المعرفة أغلي عناصر الانتاج تكلفة, وهي في الوقت ذاته أعلاها عائدا اقتصاديا واجتماعيا, ومن المسلم به منذ بزوغ التاريخ الإنساني بأن عمليات التربية والتعليم ومؤسساتها مع تنوع وسائلها ونظمها هي المنوطة في المقام الأول بالقيام بدور تلك الصياغة اللامتناهية للبشر. والطاقة المولدة للمعرفة والفكر, والإرادة والعمل. ومع ما صادف هذه المسئوليات التعليمية من مشكلات في مختلف العصور, تظل جدلية المقولة بأن التربية هي المشكلة, إلا انها في الوقت ذاته هي الحل لمعضلات البقاء والنماء والنهضة العمرانية, وليس ثمة مبالغة في مقولة المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد تويني بأن( تاريخ الحضارات إنما هو صراع حول التعليم أو الكارثة(. ومع الثورة المعرفية الراهنة ومنطلقاتها العلمية والتكنولوجية وتوسع ساحاتها الفضائية أخذت تترسخ سطوة قواعدها, وظهرت معطيات وحقائق ومفاهيم جديدة منها: مجتمع المعرفة, والمجتمع الاعتباري الافتراضي, والانتاج كثيف المعرفة. وتجلي جبروت العقل والفكر البشري في قيام صناعات تعتمد عليهما مثل الالكترونيات الدقيقة, ووسائل الاتصال, والتكنولوجيا الحيوية, وصناعة الحاسوب وشبكاته, والبرمجيات, ورقمنة البيانات والتعلم من بعد, إلي آخر هذه القائمة المذهلة من مصادر المعرفة وآلياتها. ولعله من المفيد أن نقتصر في هذا المقال علي الدعائم التي يرتكز عليها مجتمع المعرفة وتأجيل توضيح أحوال بيتنا المعرفي إلي المقال التالي: وتتأسس دعائم هذا البيت علي أعمدة رئيسية أربعة: أولها دعامة اكتساب المعرفة من خلال ما سبقت الإشارة إليه من منظومة التربية والتعليم, وثانيها الدعامة المرتبطة بمجال منجزات البحوث العلمية والتكنولوجية والانسانية, تلتحم معها مضامين أجهزة الثقافة والإعلام الحديثة, ومخزون الثقافة الشعبية والموروثات والمفاهيم التراثية والقيمية والإبداعات الفنية التاريخية والمتجددة. وسوف يتضح في مقالنا التالي عن أحوال واقع بيت المعرفة العربي مدي الجهود المثابرة للوفاء بمتطلبات دعائمه في تفاعلاتها وامتداد افاقها طولا, وعرضا, وعمقا, وزمنا, وطرقا, وتمويلا وانتشارا بين مختلف الشرائح الاجتماعية والمواقع الجغرافية, وأري من المناسب في تأكيد الأهمية البالغة للجهود المطلوبة وتراكمها وتفاعلاتها ان اقتبس ما أورده عالم الفضاء العربي د.فاروق الباز( الأهرام2010/6/17) حين يبصرنا بمقولة أول رئيس لوكالة ناسا إذ يقول للعاملين من قياداتها ومديريها( إذا استطعتم ان تأخذوا من كل من يعمل ما يعتقد أنه قادر عليه فسوف نفشل دون شك, أما إذا استطعتم تشجيع كل عامل يعمل علي السعي لإنجاز أكثر مما يعتقد فسوف ننجح ونوصل الإنسان الي القمر( هذه حكمة بالغة تنسحب أيضا علي إدارة المجتمع وقواه العاملة بمجملها في كل مجالات العمل الإنمائي. ويبقي مع تلك الدعائم هذه المدخلات والاحتياجات لدخول عالم الثورة المعرفية ضرورة توفير أربعة أجواء مجتمعية عامة, أولها إشاعة جو الحرية في التفكير والحوار, حاجة, وحقا, ونظاما, ومناخا, وتعبيرا, وتأثيرا, وإتاحة لمصادر المعلومات. وبذلك يتم القضاء علي ما يسود من زيف وارتياب وفساد. وينفتح المجال للمغامرة والنقد والإبداع والتجديد تجاوزا رشيدا لطغيان( تخدير الألفة) والتمسك المطمئن بالأوضاع والتقاليد الراهنة. وهذه مهمات ينبغي ان تكون ميثاق العمل لكل مؤسسات العمل التربوية والثقافية ومؤسسات المجتمع التشريعية والتنفيذية الإنتاجية والخدمية, وتتغير رسالة المعلم والاستاذ الي تنمية التفكير الخلاق والناقد بدلا من تغليب مجرد نقل المعرفة وبيعها للزبائن, الذين يبتلعونها دون هضم أو محاولة تغيير. والمناخ الثاني الذي ينبغي أن يسود في أجواء التحول نحو مجتمع المعرفة هو إشاعة ديمقراطية التعليم, وبما يضمن العدالة الاجتماعية وإتاحة مختلف الفرص التعليمية علي أوسع نطاق, وتدلنا التجارب التاريخية انه لن تقوم ديمقراطية حقيقية بقيادة نخبة صغيرة قد اكتسبت تعليما راقيا مبدعا, ووراءها جماهير من الأميين أو ممن لم تحط إلا بتعليم متدن هزيل. والمناخ الثالث الذي يوفر امكانات الانجاز والتقدم في بناء البيت المعرفي هو توفير مقومات وآليات التعاون والتكامل القومي بين اقطار الوطن العربي في مشروعاته التنموية والتعليمية, وتوظف الوسائل التكنولوجية لذلك التعاون والتكامل والتكافل. وعلي المنظمات الاقليمية العربية والإسلامية ان تمارس دورها الهام في هذا الصدد, ترشيدا ودعما ومتابعة وتقييما. ويلتحم بالمناخ الوطني والقومي القناعة بضرورة التفاعل والتلاقح مع أجواء المحيط العالمي وما يموج به من زخم التيارات والانجازات العلمية والتكنولوجية والمعرفية, ولا جدال في أهمية الالتفات والإفادة من هذا المحيط المعرفي العالمي من خلال رؤية واعية ناقدة نافذة لما يدفع بالنمو الفعال لبيت المعرفة العربي, متلاحقة مع منجزات مجتمع المعرفة العالمي. ومن هنا يأتي استخدامي لمفهوم تأسيس بيت المعرفة العربي حيث تتشكل مقوماته الذاتية في تفاعلها مع المنجزات العالمية. وستظل ذخيرة تراثنا وموروثاتنا وجهودنا السابقة جزءا لاينفصل عن رؤية الواقع المتجدد, لكنها تبقي دوما خاضعة للنقد والتقييم والمراجعة والتجديد في ضوء منتجات العقل البشري واحتياجات التنمية الشاملة المستدامة. المزيد من مقالات حامد عمار