من الخطأ أن يستغرقنا الشأن المحلي رغم أهميته لدرجة لا تجعلنا غير قادرين علي متابعة تطورات دولية واقليمية تنذر بتحولات هائلة, وسوف يكون لها آثار خطيرة للغاية علي شئوننا المحلية أيضا. أهم هذه التطورات علي الاطلاق أحاديث الهزيمة الأمريكية في أفغانستان, والجارية الآن علي كل لسان وقلم في الولاياتالمتحدة وأوروبا, والسيناريوهات المقترحة لما بعد هذه الهزيمة في اقليم الهندكوش ممتدا إلي الشرق الأوسط, ودعك من تعثر العملية السياسية في العراق إلي حد ينذر بانفجار جديد إذا رفع الغطاء الأمريكي العسكري والسياسي, وكذلك دعنا أيضا مما يجري في فلسطين ولبنان واسرائيل واليمن لأن كل هذه المناطق والأزمات سوف تتأثر تأثرا لا يستطيع أحد أن يتكهن بنطاقه أو اتجاهه بما سيحدث في أفغانستان. بغض النظر عن تأكيدات الرئيس الأمريكي أوباما وفريقه أن هذه الحرب غير مسموح بخسارتها, فإن الجميع خارج نطاق الإدارة يتحدثون في كل مناسبة عن استحالة كسب الحرب ضد طالبان, والبعض كان صريحا إلي حد الاعتراف بأن الهزيمة حدثت فعلا, وكل ما تبقي هو سيناريوهات اخراج النتيجة في شكل يحد من التوابع الضارة اقليميا ودوليا وداخليا في الولاياتالمتحدة, فاقترح هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق ومهندس الخروج من المستنقع الفيتنامي بناء اجماع دولي واقليمي علي تحييد أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي تحت أي نوع من الحكم علي غرار تحييد بلجيكا في الصراعات الأوروبية في القرن19 حتي قيام الحرب العالمية الثانية, ويري كيسنجر ضرورة ضم ايران الي هذا الاجماع حتي لا تكون مصدرا للقلاقل في افغانستان المحايدة, والهند حتي تطمئن باكستان أن الأراضي الأفغانية لن تكون مسرحا لنفوذ هندي يحاصرها من جميع الجهات, وذلك فضلا علي الصين وروسيا وحلف الناتو بطبيعة الحال, وايضا المملكة العربية السعودية, ولعل زيارة ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا الأخيرة للهند كانت لاستكشاف استعداد نيودلهي لمثل هذا السيناريو بتكليف من البيت الأبيض الأمريكي, وربما يكون تسريب الوثائق الدفاعية الأمريكية التي تتهم المخابرات الباكستانية بمساعدة طالبان بأموال المعونة الأمريكية كان ضغطا مقصودا لجلب الباكستانيين إلي المشروع عندما يضم الهند. مشروع ثان طرح في الكتابات السياسية الأمريكية يتمثل في تقسيم افغانستان إلي شمالية وجنوبية, بحيث يترك الجنوب الباشتوني لطالبان, وتقوم حكوم موالية للغرب في الشمال الطاجيكي الأوزبكي, وبذلك تقل العداوة مع طالبان التي ستعود إلي السلطة في منطقة قواعدها الشعبية والاجتماعية فيسهل الفصل بينها وبين القاعدة التي هي العدو الارهابي الرئيسي للولايات المتحدة والغرب, أما المشروع الثالث الذي تبلور فكان الاقتداء بنموذج الصومال الحالي, بحيث تحتفظ القوات الأمريكية وقوات الأطلنطي بمدينة كابول وضواحيها فقط لحكومة كرزاي أو أية حكومة أفغانية جديدة علي غرار مقديشيو عاصمة الصومال, وتترك بقية المناطق الأفغانية نهبا لأمراء بما تكفي كابول والغرب شر طالبان والقاعدة, وتجعل بأس الأفغان بينهم وبين بعضهم البعض. رأينا الخاص هو أن أيا من هذه السيناريوهات لن ينجح فالسيناريو الأول يتطلب تعاون ايرانوباكستان والهند فضلا عن الصين وروسيا, ويمكن توقع التفاهم مع القوتين الأخيرتين وكذلك الهند بسهولة, ولكن ما هو الثمن المطلوب دفعه امريكيا مقابل التعاون الايراني المخلص, وكذلك مقابل التعاون الباكستاني المخلص؟ بالطبع لن يكون المقابل الذي ستطلبه ايران شيئا أقل من تسوية شاملة للخلافات الايرانيةالأمريكية ممتدة علي ساحة الخليج والشرق الأوسط بإتساعها, كذلك لن يكون المقابل الذي تطلبه باكستان أقل من حل قضية كشمير, أو البحث عن ترضية هندية للباكستانيين الذين لا يرون في الدنيا سوي الخطر الهندي. فإذا افترضنا أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها وأصدقاءها قادرون علي دفع هذه الأثمان فهل سيخفي ذلك حقيقة أن الولاياتالمتحدة هزمت أمام طالبان؟! السيناريو الثاني أي التقسيم ستكون عواقبه أوخم, لأنه لن يعني فقط هزيمة الولاياتالمتحدة, وإنما توفير بيئة مستقرة ومستقلة لطالبان والقاعدة في أفغانستان الجنوبية, أما السيناريو الثالث ففضلا عن عدم أخلاقيته, فهو سيفتح الباب أمام صراع أقليمي تشارك فيه الهند وباكستانوايران وربما روسيا والصين علي استقطاب أمراء الحرب خارج منطقة كابول تماما مثلما يحدث في الصومال خارج مقديشيو, ولن يخفي أي من هذين السيناريوهين حقيقة الهزيمة الأمريكية. ومع ذلك فلنسلم جدلا بأنه سيمكن احتواء الأضرار مؤقتا في أفغانستان وفق أحد السيناريوهات الثلاثة المذكورة, أو وفقا لأي سيناريو آخر, فكيف سيمكن للغرب ولحكومات الإقليم من جبال هندكوش حتي سواحل المغرب العربي احتواء الزخم الهائل الذي سوف تكتسبه الحركة الأصولية الجهادية, وفي طليعتها تنظيم القاعدة بعد انتصارها في أفغانستان؟ ان الحاصل في اليمن حاليا لا يبشر بخير, وكذلك الوضع في الصومال, أما إذا انهارت اوضاع العراق وهي دائما عرضة للانهيار, واستعاد الأصوليون زمام المبادرة هناك فإن المنطقة من باب المندب حتي بلاد الرافدين سوف تشتعل كلها, وهو ما قد يجر تدخلا ايرانيا لصالح شيعة العراق, ثم تدخلا خليجيا لمساندة السنة هناك, وسوف تطول ألسنة اللهب لا محالة لبنان وفلسطين والأردن, وطبعا سوريا, ولن تقف تركيا أو مصر في هذه الحالة متفرجتين, وكذلك اسرائيل ناهيك عن أن الزخم الأصولي سوف ينعكس في صورة قلائل أو عمليات إرهابية في داخل عدد من دول المنطقة أو فيها كلها( هل نعتبر تحذير السيد حبيب العادلي وزير الداخلية المصرية في كلمته في عيد الشرطة أخيرا من أن المتغيرات الدولية تنذر بموجة جديدة من الأرهاب بمثابة قراءة مبكرة لهذه التوقعات؟!!) إذن كيف يمكن للشرق الأوسط الكبير أو الموسع أو الجديد مع الاعتذار لغير المأسوف علي رحيلها كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة, أن ينجو من هذا المصير المشئوم؟ في اعتقادي أنه سيناريو واحدا لا ثاني له: هو إعادة انتاج النموذج الأوروبي الغربي في فترة مابعد الحرب العالمية الثانية في هذا الشرق الأوسط الموسع, وليس فقط نموذج بلجيكا في أفغانستان كما يقترح كيسنجر, أي البدء فورا في وضع سيناريوهات للتنفيذ للتسويات الأقليمية في إطار تسوية شاملة يقرها مؤتمر دولي في إطار الأممالمتحدة, مع نظام للأمن الجماعي وتمويل التنمية, والأصلاح السياسي, لكن هذا كله لن يحدث منه شيء ما لم يتم البدء بتسوية سريعة وعادلة وشاملة للقضية الفلسطينية. إن هذه التسوية هي المفتاح لكل مغاليق الشرق الأوسط, ويكفي أنها سوف تثبت للعرب والمسلمين ليس فقط جدية الولاياتالمتحدة وحسن نيتها, ولكنها سوف تنزع علي الفور أهم عوامل السخط التي توفر البيئة المغرضة للتطرف والإرهاب. كما أنها سوف تبطل سببا رئيسيا من أسباب التوتر بين ايران والغرب, وبين إيران والعرب, ومن ثم تسهل علي الجميع التزامات الأمن الجماعي وصولا إلي نزع الأسلحة والبرامج النووية. هذه رسالة إلي البيت الأبيض.. والي أصدقاء إسرائيل في الكونجرس وفي مختلف جماعات الضغط التي نعرف جميعا أنها عرقلت وتعرقل جهود السلام العادل في المنطقة.. وخلاصة هذه الرسالة أن السلام في الشرق الأوسط لم يعد فقط مصلحة أمريكية وإنما أصبح أيضا حاجة أمريكية مباشرة وملحة, مثلما هو حاجة ملحة للمنطقة وسائر العالم. هذه الفكرة خطرت للرئيس السابق بوش فور هجمات11 سبتمبر, ولكن غباءه المشهور ورعونته أوقعاه في شباك المحافظين الجدد. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد