هذه حكاية قرش قد جري سكه, فخرج إلي الحياة لأول مرة, لحظتها راح يقفز ويرن فرحا, معلنا أنه سوف يستمتع بوجوده في حياة مفتوحة حيث يتداوله كثير من الناس. صحيح أنه قد امتدت مسيرة تداوله بين أيد كثيرة, وصحيح أنه كلما ذهب إلي يد طفل, كان يستشعر أنه يحافظ عليه جيدا بيدين دافئتين. وإذا ما انتقل إلي يد عجوز بخيل, فإنه يستشعر بقبضة يدين باردتين لزجتين, حيث يظل البخيل يقلب فيه, ويدوره مرات, في حين إذا وصل إلي يد شاب ينزلق من فوره في سياق الشراء, لكن الصحيح أن القرش لم يفقد يوما الاعتراف بقيمته, واعتاد قبوله التداول داخل بلده الذي صاغه ومنحه قيمته وتقديره واستقراره في سياق محله الاجتماعي والجغرافي. لكن فجأة غادر القرش بلده, حيث كان آخر عملة تبقت في حافظة نقود أحد المواطنين المسافرين إلي الخارج, الذي لم يكن يعلم أن ذلك القرش مازال قابعا في محفظته, إلا عندما اصطدمت به أصابعه, عندئذ قرر الرجل المسافر أن يحافظ علي قرش بلده رفيقا له خلال رحلة سفره, ساعتها قفز القرش مبتهجا عندما أعاده الرجل إلي محفظته مرة أخري. بالطبع فإنه في أثناء تتابع رحلة الرجل من بلد إلي بلد, توافد علي القرش رفقاء غرباء من عملات مختلفة ظلوا يروحون ويجيئون, أما القرش فلم يتبعهم في رواحهم, وظل باقيا دوما في مكانه داخل المحفظة لا يغادرها. لعلنا نستطيع أن نفهم أسباب هذه العزلة, ذلك أن هناك أبعادا من الضبط القانوني والسياسي والمؤسسي يدركها المسافر, لا تخول للقرش حق الخروج للتداول في غير بلده, وتفهم كذلك أن الإنسان عامة, تحكمه في الحياة حقائق جوهرية, بوصفها تحديات تشكل ضروبا من معاناة الوجود, منها معاناة الغياب والافتقاد, لذا فإن المسافر عندما حمل قرش بلده واستبقاه ملازما له بدلالة معناه, إنما كان يواجه به أوجاع مشاعر الافتقاد والغياب والحنين إلي دفء الانتماء, ولم يصطحبه بالطبع ليطرحه للتداول في الأسواق. لقد ظل القرش لأسابيع لائذا بذلك الإيثار الذي خلعه عليه المسافر, متجليا في مشاركته رحلته وملازمته له. جاب القرش أماكن بعيدة من العالم دون أن يعرف هو نفسه في أي مكان كان, وسمع من العملات النقدية الأخري إعلانها عن أوطانها, أسماء بلاد كثيرة سمعها, لكن ذلك لم يعن للقرش شيئا, إذ رؤية ما يدور في العالم لا تتاح لمن يكون دوما في داخل كيس. صحيح أن القرش علي الحقيقة في داخل كيس, في عالم بلا جغرافيا, بلا أبعاد, بلا زمان يصنع أحداثا وتاريخا, إذ زمان القرش داخل المحفظة محض زمان عادي منفصل عن أي تغيير, لكن الصحيح كذلك أن علي القرش أن يتفحص نفسه, ويستوعب نتائج تحركه, ويعي حدوده, وأن يشغله في ضوء وضعه الحالي سؤال معني وجوده, من يكون, وكيف سيكون, إن هو خرج من المحفظة في بلد غير بلده؟ تري هل خروج القرش إلي تلك البلاد يبطل فعاليته, ويسقط قيمته وسيادته, وينتهك خصوصيته, وينال من هويته؟ شعر القرش يوما أن محفظة النقود مفتوحة, فتملكه الفضول للتحرر منها بالتجوال خارجها, فراح يتسلل حتي استقر في جيب بنطلون صاحبه, ثم وقع علي الأرض, فلم يره أو يسمع به أحد. غادر صاحبه مسافرا, وبالطبع لم يأخذه معه. عثر عليه أحدهم, وعندما تطلع فيه اكتشف أنه ليس من عملة بلده, علي الفور صنفه زائفا لا يصلح للتداول. إن ذلك التناقض بين حقيقته الداخلية المسكونة بشرعية صلاحيته في قيمته وختمه, وصورته الخارجية المشحونة بالنفي لاستحقاقاته بادعاء زيفه, قد أصاب القرش بشعور مميت, وحاصرته مرارة الإحساس بعجزه في الدفاع عن نفسه, كما قهره استبداد امتثاله الصامت في شأن مصيره لادعاء الخارج المغاير بهالاته المحيطة به من كل جانب, وقد عمق من فداحة استمرار التعارض افتقاده إمكانية معرفة كيفية تعديل مرويات الخارج عنه وإكرهاته, لتصبح امتدادا لصحيح الداخل. غدا القرش ضحية عذاب دائم من الاستنكار, غارقا في ملاحقات من الشتائم يطلقها كل من يقع في يده, ويكتشف أنه ليس من عملة البلد, علي التو تحدث القطيعة, إما برميه بعيدا, وإما باللجوء إلي التخلص منه بممارسة الغش علي آخرين بوصفه زائفا. حصلت امرأة فقيرة علي القرش, بوصفه أجر يوم مقابل تعبها وشقائها, لكن أحدا لم يقبل القرش الغريب منها. قررت المرأة مضطرة أن تخدع به الخباز الغني, وبررت فعلتها بأن إمكاناته تسمح بتحمله لخسارته, وإن تنازعها ضغط احتياجها الشديد, وضميرها الرافض لمدلول عدم عدالة سلوكها. رمي الخباز القرش في وجه المرأة, عندما عرف أنه ليس من عملة البلد, ولم تحصل المرأة الفقيرة علي خبزها. خجل القرش وهو يتابع انكسار المرأة التي تسبب في مأزقها بكل روافده, سواء في عدم حصولها علي ما يسد رمقها بجهد عملها, أو في إهانتها, أو في تأنيب ضميرها, ثم راح القرش يتأمل راهنه في المكان الذي لا يعرفه, فإذ به البرئ الفاقد لوجوده وهويته, مطرودا إلي وضع غير مفهوم له, مرفوضا من الجميع بإكراه لا يدركه, حتي إنه برغم يقينه من براءته, فإن محنته اليومية أصابته بالارتباك والخلل لمجرد شعوره بأنه يبدو زائفا, وإن كان في راهنه يحمل وجه الأمس ذاته بدلالاته التي تتجلي في قيمته المقدرة, وختم مصداقيته, وحقانية تداوله وصلاحه, لكن ذلك كله لا قيمة له في هذا المكان المحيط به, الذي يمثل تهديدا لوجوده بتبديده هويته. تري متي يستطيع القرش استرداد هويته الضائعة؟ أخذت المرأة القرش وعادت به إلي بيتها, تفحصته, وأبدت تجاهه قدرا من الحنان واللطف, وأعلنت أنها لن تعود لتخدع به أحدا بعد, وكأنها استجابت لضميرها, وأيضا كمن أرادت أن تعمم مبدأ العدالة حتي لا يقع لغيرها حادث غش محتمل, لذا قررت إجراء ثقب بالقرش ليكون الدلالة الواضحة لزيفه أمام الجميع. لا شك أن المرأة لا تعلم أن القرش لم يسك تزييفا, وأنه يمثل قيمة حقيقية في بلده, وإن كان يختلف عن عملات بلدها, ولا تعلم أيضا أن وجود القرش في بلدها محض مغامرة فضول, وليست سعيا إلي أن يستوطن مجالا اجتماعيا وثقافيا غير بلده, ليمارس التداول بين أهله. لكن علي الجانب الاخر لم يستطع القرش أن يدفع عن نفسه اغتصابها الوقح لهويته بتنفيذها قرارها. تبدت واضحة محاولة المرأة في استرضائه, تعويضا عن تبديد هويته, فقد منحته لقبا وهميا, ذلك أنه قرش السعد, لذا نظمته في شريط ليلبسه طفل الجيران حول رقبته استجلابا للحظ, وأصبح القرش بذلك تحت العين, وليس في اليد. خرج القرش من منزل المرأة مهدور الهوية محزونا, ليستقر في رقبة طفل الجيران. لكن في صباح اليوم التالي, قامت أم الطفل بنزع القرش من الشريط, وغمسته في حامض حتي صار القرش أخضر اللون, ثم معجنت الثقب, وعندما حل الظلام ذهبت به إلي بائع اليانصيب, لتحصل علي ورقة يانصيب تجلب لها الحظ, إذ تشبعت بالوهم, وتحت تأثير حشد الناس حول البائع وإرهاقه قبل القرش, لكنه تعرف عليه بعد ذلك, فنحاه جانبا لينتقل إلي الآخرين بالغش. استمرت دائرة العذاب والحصار للقرش لسنوات ينتقل من يد إلي أخري, ومن بيت إلي بيت, معرضا للاحتقار والشتم. تري أين, وكيف يمكن للقرش أن يتحرر من ورطته, ويسترد استحقاقه المشروع الذي يلتصق به ويستشعره منذ ولادته؟ وذات يوم وقع القرش بالغش في يد مسافر سائح, فأمعن الرجل في النظر فيه مدققا, علي الفور أشرقت معاني وجهه, وهو مالم يعتده القرش ممن يتفحصونه, ثم تجلت مشاعر اعتزاز الرجل بالقرش ساطعة كشعاع ضوء, ولفتته رائحة كانت قد غابت عنه, ولم يجد القرش تفسيرا لذلك إلا عندما صاح الرجل بتعرفه عليه, معلنا أنه إحدي القطع النقدية الأصلية من عملة بلده, ونفي عنه الزيف, ولم يبد أية أهمية للثقب كدلالة نقصان, بل اعترف بأصالة القرش, وأكد صلاحته وقيمته, وقرر أن يحتفظ به ليعود معه إلي بلده. تطهر القرش من معاناته, وغمرته السعادة لعودته إلي بلده, حيث هناك سيسترد وجوده ويتعافي من انتكاسة العمر. هذه حكاية يتشابك فيها الإنسان والجماد, صاغها كاتبها بخيال مفتوح علي الإدهاش, فأبدع عالما متحررا من اللا محتمل والمحال, إذ منح الجماد مشاعر عاطفية, وتطلعات إنسانية, ورهان كاتبها هو تخصيب الواقع, وإضاءة مكونات الوجود. إن حكاية القرش الفضي هي إحدي حكايات كاتب الدانمارك العظيم هانز كريستين أندرسون(1805 1875), التي كتبها كما قرر للأطفال والكبار معا, حيث يسعي كل منهما إلي فك شفراتها بحثا عن رصيد المعاني التي يفسر من خلالها تجربته, وينظم سلوكه. يتجلي الوطن في القصة بوصفه معني, يري الفرد نفسه من خلاله, ويجمعه كذلك مع الآخرين مشاركة, وتواصلا, وتكاملا, وتضامنا, إذ وطن المعني تحدده الجغرافيا السياسية, وترسم حدوده, وتنتج الجغرافيا الثقافية بتاريخها هويته, وتشكل خصائصها التي تحافظ علي بقائه واستمراره, وهما معا يستولدان وجودا اجتماعيا يحقق لأفراده الشعور بال نحن, لذا فإنه خارج حدود وطن المعني يبدأ القلق علي المصير, وأيضا عندما تهدر الهوية يستلب الوجود, وإهدار الهوية يؤسس لكل ضروب الاستلاب السياسي, والاجتماعي, والفكري. في قصتنا عاش القرش خارج وطنه ملاحقات القلق علي مصيره, وافتقد الشعور بال نحن, وجرت محاولات إهدار هويته لاستلاب وجوده, حتي أنقذه أحد أبناء بلده, فأعاده إلي وطنه الذي يفتح أمامه أفق تكامل وجوده. صحيح أن وطن المعني هو ما يفتح لمواطنيه أفق تكامل وجودهم الفردي والجماعي, ويعزز مسئولياتهم عن تطوير ذواتهم, ويحمي خصوصياتهم, ومكتسباتهم, واستحقاقاتهم في ظل تعايش مشترك, تتوازن فيه السلطة وتتقاسم, تعترف بحق الاختلاف والتسامح, وتؤسس سياقا عادلا لاقسام المصالح, لكن الصحيح كذلك أن وطن المعني مرهون بمدي وعي مواطنيه وثقافتهم وإدراكهم, بوصف ذلك الرصيد الذي يرتكز عليه التأثير الداعم لإيجابية خياراتهم, وشحذ طاقة مقاومتهم للتحديات, والتهديدات, والتصدي لكل مشروع ارتدادي يستهدف الاستبداد, بالسعي إلي اختطاف هوية وطن المعني ليصوغها بما يباعدها عن حقيقتها, متخفيا وراء شعارات الفضيلة, ممارسا الاستعلاء علي الناس, تماما كما تجلي ذلك في صيحة مرشد الإخوان طظ في مصر, وأبو مصر, واللي في مصر. صحيح أنها صيحة ملغومة بدلالات شرخ الهوية الوطنية, وإهدار حدود الوطن, واستلاب وجوده, وإلغاء كيانه الذي ظل محروسا بدماء أبنائه من مسلمين وأقباط, لكن الصحيح كذلك أن الصيحة لم تكن ارتباكا في الرؤية, بل محض إعلان وصاية علي المجتمع بالاستعلاء المستمد من موروث الجماعة, الذي يؤكد فوقيتهم وعلويتهم علي الناس, بامتلاكهم وحدهم كل الحقيقة, تبريرا لاغتصاب الوطن واحتكاره بإكراه آليات الاستبداد الخفي الذي يتجلبب بشعارك الفضيلة, تمكينا لممارسة الوصاية استلابا للعقول والمشاعر.