لا توجد كلمات في قاموس لغتنا الوطنية بإمكانها أن تعبر عن حالة الصدمة التي أصابتنا من هول بشاعة جريمة كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة, ولا يوجد لدي أكثرنا حصافة ورباطة جأش. من المنطق ما يسعفه للإجابة علي تساؤلات طفلة صغيرة خرجت من أتون النيران المشتعلة لتقول لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يريدون قتلنا؟ في المقابل كانت هناك كتيبة من الكتاب والمحللين, جاهزة علي الدوام وباستمرار, لترديد عبارات لم يعد يؤمن بها أحد, ولا يوجد من هو علي استعداد هذه المرة لمجرد سماعها. ورغم ذلك فهناك من خرج ليقول أنها مؤامرة خارجية, وانقسم أنصار ترويج نظرية المؤامرة إلي فريقين, فريق وجه أصابع الاتهام إلي أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية, فخرج من اللحظة الأولي ليقول الموساد.. الموساد وفريق آخر وجه الاتهام إلي تنظيم القاعدة في الخارج, مؤكدا أنها مؤامرة تستهدف مصر وأمنها وأن مصر بخير والمصريين في رباط إلي يوم الدين. وفي الحقيقية فإن الحديث عن العامل الخارجي هو محاولة للهروب إلي الأمام وفيه من إعفاء للنفس من المسئولية بأكثر مما يحمل من قناعة ذاتية أو حتي محاولة للفهم. وبالطبع فإن حديث المؤامرة الخارجية يلقي آذانا صاغية, فقد اعتدنا علي ذلك وأصبحنا أسري التفكير وفق نظرية المؤامرة, وفي ظل هذه الأجواء يكون في الحديث عن الموساد الإسرائيلي ما يريح النفس ويعفيها من المسئولية, فمصر مستهدفة والموساد يسعي إلي المساس بوحدتنا الوطنية, ولما لا وهناك من يري أن الموساد يقف وراء التفجيرات الإرهابية في شرم الشيخ, العريش وطابا, وأحداث العمرانية وقصة أسماك القرش وصولا إلي جريمة كنيسة القديسين, وهو حديث ينطوي علي مبالغة شديدة وخطرة أيضا, فهو حديث يقدم صورة أسطورية للموساد الإسرائيلي مع أنه جهاز استخبارات عادي جدا, له من الإخفاقات أكثر مما له من النجاحات, ونجاحه يعتمد علي شراء عملاء محليين أي خونة, فقد اغتال المناضل الفلسطيني يحيي عياش بشراء إبن شقيقته, وإغتال الشيخ أحمد ياسين بشراء أحد المقربين منه الذي ذرع أجهزة دقيقة في كرسيه المتحرك فسهل عملية رصده وضربه بعد ذلك, أيضا عملية إغتيال القيادي في حركة حماس, محمود المبحوح جرت بتجنيد أحد أبرز المقربين منه, ومن ثم فالحديث عن وقوف الموساد خلف مثل هذه العمليات يعني أننا مخترقون من هذا الجهاز, كما أن كيله الضربات فيه إهانة لأجهزة الأمن المصرية وهو أمر لا أعتقد أنه صحيح. الحديث عن مسئولية تنظيم القاعدة أيضا لا يخلو من مبالغات شديدة, صحيح سبق للتنظيم وهدد باستهداف الأقباط, لكن الصحيح أيضا أن ذلك يعني وجود شبكات محلية أو خلايا مصرية علي تواصل فكري علي الأقل, تحركت وجهزت المتفجرات, ودخلت بها مدينة الإسكندرية وذهب المنفذ أو المنفذون إلي محيط الكنيسة في ليلة ساهرة وجرت عملية التفجير. وهنا فإن أسئلة كثيرة تظل دون إجابات مثل ماذا فعلنا في مواجهة مناخ طائفي محتقن في الإسكندرية, فمنذ شهور والجماعات السلفية تنظم مسيرات كل يوم جمعة تجوب المدينة وهي تصب جام غضبها ولعناتها علي الكنيسة المصرية, رأسها والجسد أيضا. كما أن الكنيسة نفسها سبق استهدافها. ما أود التأكيد عليه هو أن الجريمة صناعة محلية, قد تكون هناك امتدادات خارجية, لكن المكونات التفجيرية والبشرية محلية الصنع, وإذا كان المكون التفجيري يمكن العثور عليه وشراؤه أو تركيبه, فأن الأكثر خطورة هنا هو العنصر البشري, أي الشخص أو الأشخاص الذين قرروا تفجير أنفسهم لقتل أبرياء لا ذنب لهم سوي أنهم مسيحيون, والسؤال هنا ما الذي أوصل شريحة من المصريين إلي هذه الحالة الذهنية والنفسية؟ الإجابة باختصار أنه نتاج طبيعي لمكونات أدوات التنشئة التي تعمل منذ أوائل السبعينيات, فمنذ مجيء الرئيس السادات بدأت عملية تغيير شامل في طبيعة المجتمع المصري, جرت عملية تغيير للطبيعة المصرية, الروح المصرية, جرت عملية تشويش للنموذج المصري في العيش المشترك والحياة المشتركة..جري كل ذلك عبر تغيير مناهج التعليم كي تجعل من المصري المسيحي إنسانا بلا جذور تاريخية بأرضه, تشكك في صحة عقيدته. ترافق مع ذلك سياسات إعلامية طائفية, مع دور سلبي لرجال الدين الذين ألحوا علي شباب مصر بأنه ليس في تاريخه العظيم ما يدعو إلي الفخر, وأن تاريخه محل الفخر بدأ مع دخول العرب فقط.. ترافق مع ذلك انسحاب الدولة من ممارسة دورها في مجالات محددة, وبدا الأمر وكأنه سحب لمظلة الوطن من فوق رؤوس مواطنين, وجدوا أنفسهم فجأة دون سقف أو مظلة تحمي, فلجأوا إلي الكنيسة التي تمدد دورها واتسع, واستراح طرفا المعادلة لذلك. الدولة تتعامل مع الأقباط باعتبارهم طائفة أو ملة, تتحدث إلي كبيرهم, والأقباط أو شريحة كبيرة منهم وجدوا في داخل أسوار الكنيسة ما اعتقدوا أنه الأمن والحماية. ونتيجة هذه المعادلة تراجعت الدولة المدنية, تبدل الدستور وتغيرت مواده, وكانت قيم المواطنة والمساواة والعيش المشترك قد فارقت النفوس والعقول والقلوب قبل أن تطمسها مواد دستورية جري تعديلها لفتح عدد مرات الترشح لرئاسة الدولة. إننا نجني ثمار الخلطة التي تشكلت منذ بداية السبعينيات, وهي ثمار مرة للغاية, وباتت تهدد الوطن بالإنفجار, وتحد من حصانته في مواجهة الخارج, وإذا كنا نشعر بالفعل بخطورة ما جري في الإسكندرية, فلنفارق الكلمات إلي الفعل, ننتقل من التصريحات إلي الممارسة علي الأرض, لقد تبدلت مصر وتبدل معها المصريون مسلمين ومسيحيين, والأجيال الجديدة ليس أمامها قدوة أو نموذج, ولم تعش الحياة المشتركة التي كانت سمة مصر حتي منتصف السبعينيات, والحل لن يأتي من الخارج, الحل لابد أن يكون صناعة مصرية. والقرار بيد الدولة المصرية, التي بيدها غالبية أدوات التنشئة من تعليم وإعلام وخطاب ديني, كما أنه بإمكانها أن تحدث تغييرا حقيقيا في مصر بأن تجند قدراتها وطاقات أبنائها من أجل وضع أسس دولة مدنية عصرية وفق خطط زمنية محددة.